الخميس 2013/05/02

آخر تحديث: 07:41 (بيروت)

مسكين أنت يا بوذا!

الخميس 2013/05/02
مسكين أنت يا بوذا!
تمثال بوذا المفتقد في أفغانستان
increase حجم الخط decrease
صار مثبتاً، أعتقد، أن المحتلّين (الاستعمار القديم والجديد) والديكتاتوريين من أزمنة ما قبل نيرون بآلاف السنين وصولاً إلى النظام السوري، لا يرفّ لهم جفن إزاء تهديم أو نهب الأوابد الأثرية.
مال الاستعمار إلى النهب بدلاً من الهدم بسبب خلفية حضارية كانت ترشده، واستطاع إغناء متاحفه الأوروبية والأميركية (عدا حالة أنف أبي الهول المسكين فحجمه لم يسمح بنهبه!)، أمّا الطغاة فلا علاقة لهم عموماً بأي شيء حضاريّ، وهنا أيضاً استثناءات ما كحرق نيرون لروما. المؤرخون يرجعون الفعلة إلى حالة جنون، وهي سمة قد ترافق العبقرية! على أية حال ما أظنه كان جاهلاً كآل الوحش في سورية لأنه تربّى وتعلّم على يد الفيلسوف القرطبي سينيكا، الذي قضى بدوره انتحاراً.. أو منحوراً. 
وليست مراحل المدّ الإسلامي ببريئة من هذه الجرائم، فقد نهبوا آثار قرطاج ليستعملوها في بناء مسجد قرطبة الجامع.. (ربما توفيراً للوقت والتكاليف) ودمّر المرابطون مدينة الزهراء، رائعة العمارة الإسلامية في الأندلس والوحيدة التي قرّرت وأسّست كبنية متكاملة، وقد هُدمت باسم "الإسلام"، وهُشّمت عشرات الآلاف من رؤوس التماثيل القديمة حيث طالت أيديهم وعلى امتدادات هيمنتهم. وحتى الأمس قام تنظيم "القاعدة" بنهب تماثيل بوذا في أفغانستان لبيعها في السوق السوداء للأثريات. وقد عفت الجحافل التركية عن "أياصوفيا" البيزنطية لأنها وقفت مشدوهة أمام عظمتها ولأنها صارت "ملكها" فحوّلتها إلى مسجد. كما أننا نصادف أفعالاً تعسّفية تنقذ، من حيث لا تدري، أوابد من عوامل الزمن والبشر، كما كانت الحال بمسرح بصرى الشام الرائع إذ ردمه المسلمون لتحويل الموقع إلى قلعة وحافظوا عليه ليغدو، بعد الكشف عنه في الربع الأول من القرن العشرين من أكثر المسارح الرومانية كمالاً. في المقابل كانت نية الكنيسة الإسبانية هدم مسجد قرطبة الجامع وبدأوا ببناء كاتدرائية في وسطه حتى أوقف جريمتهم الملك كارلوس الخامس، الذي وافق، يا للعجب، على هدم قسم من قصور الحمراء في غرناطة لبناء قصره المتجهّم القائم .
وها نحن نشهد نزيف آثارنا في سورية بفعل جرائم النظام ومواليه، فما هدم مآذن وجوانب الجامع العمري في درعا والأموي في حلب سوى تفصيلين بين عشرات لم تسلم بينها الكنائس.. أما رأينا جميعاً على الشاشات قصف قلعة المضيق وانعكاس الانفجارات على آثار تدمر؟ ناهيكم عن أربعة عقود من سرقة الآثار وتهريبها (يقال إن أحد النحاتين "الرسميين" عمل مستشاراً لتلك العصابات). 
لكن ثمة ديكتاتورية لا تقلّ شراسة وما من حدود لجغرافية هيمنتها: الرأسمال. عدو البيئة والصحة والثروة الطبيعية و.. الحياة الحالية والآتية باختصار، فالوازع الأخلاقي غير متداول في البورصات .
سنة 2001 قام مجرمو طالبان بتدمير تمثالي بوذا العملاقين في "باميان"، أفغانستان. وها هي دمى الولايات المتحدة الأمريكية تقبل على جريمة مماثلة باسم "التحضّر والتنمية".
نحن اليوم أمام مجرم اسمه China Metallurgical Group وهي مؤسسة حكومية صينية تستعدّ لتدمير مجمّع "ميس أيناك" للمعابد البوذية جنوب كابول، وذلك لاستثمار مكامن للنحاس تعتبر بالأهمية الثانية عالمياً. 
هذا المجمّع الأثري، المكتشف في ستينات القرن الماضي، بعد رفع التراب والردم عنه، كان من أهمّ محطّات طريق الحرير تاريخياً وكان مزدهراً منذ ألفي عام لدرجة أن امتداد أسواقه واستثماراته للمعدن يشغل حوالي 40 هكتاراً مربعاً، وكان قد أقيم على آثار تعود لعصر البرونز .
لحسن الحظّ ، مجازًا، قد يؤجّل الهدم حتى تتم الشركة الصينية إنجاز خط للقطار لخدمة المناجم، وريثما يحاول عاملون في التنقيب إنقاذ ما يمكن (أيذكّركم هذا بالمشاريع البعثية السورية على الفرات؟ والناصرية في النيل؟ و قطع صدّام لغابات النخيل في الجنوب العراقي؟ و...)، وقد استخرجوا ما ينوف عن 400 تمثال وكثيراً من الأدوات والأواني. بعض التماثيل مهشّمة الرأس، فهل تحزرون من الفاعل؟
ما وجد في هذا الموقع يفوق عدد الأثريات التي كان يحتويها متحف كابول قبل الحرب .
بالطبع، لا نعرف المآل النهائي لما تمّ اكتشافه، لكنه أُنقذ على الأقلّ من براثن الجرّافات الصينية.
الجشع الرأسمالي لا يعترف بضرورة التوفيق بين "التطوّر" والبيئة أو الأوابد، ونحن نشهد شطارة تقاعس الدول "المتطوّرة" في خفض نسبة الانبعاثات التي تهدّد كوكبنا.
سنسمع بعد سنة أو سنتين من يشير إلى حفرة عملاقة ويقول ببسمة صفراء: هنا كانت معابد "ميس أمياك".
 
increase حجم الخط decrease

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب