الخميس 2013/02/28

آخر تحديث: 03:57 (بيروت)

حول النحت الذي لا يصل

الخميس 2013/02/28
increase حجم الخط decrease
 ليست غاية هذه الخاطرة إثارة الغبار أو الضغائن ولا رغبة في النعر. إنما هو رأي ولي حرية الإدلاء به دون الإدّعاء بأنني أتملّك الحقيقة، فما من حقيقة مطلقة.
لكن تصفحاً، جزئياً، لما تسنى لي مشاهدته أو رؤيته من خلال زيارات متباعدة إلى بلدي سورية في خلاءات اللاذقية وجبلة ودمشق و... المنكّب القريبة من مكمني الغرناطي هذا، جعلني أستغرق بالحزن وأشاع القلق في النفس، وقلت لنفسي مستعيراً ومعدّلاً مقولة معروفة: كما تكونوا يُنحت لكم!
ارتعبت: هل وصلت الثقافة والحسّ الفني لدى أهلي إلى هذه الرداءة والضحالة؟ ترى، هل تساءل غالبية من يتصدّون لمعالجة كتلة ما، من أية مادة كانت، عن ماهيّة النحت؟
أنا تساءلت وما زلت، على الرغم من أنه هاجسي منذ ما ينوف عن الأربعين سنة. ما زلت أبحث عن الجواب.. وعنه.
لكنهم يدّعون ممارسته!
وكانت الطامة الأخيرة، على خلفية ما رأيت سابقاً، تصفّحي لموقع "اكتشف سورية" الجيد والمفيد. أبلّغ من هنا تحيّتي للعاملين فيه، فلا ذنب لهم في الضحالة المعنيّة.
ثمة خبر عن انتهاء أعمال ملتقى دولي للنحت أقيم في ما يعرف بأرض معرض دمشق الدولي. صادف أنني كنت في زيارة عندما رأيت من سيارة كنت أستفلّها كتل الحجارة والإعداد للملتقى. والتقاني المنظّم أيامها في مكان عام برفقة أصدقاء.. لكنني ممّن لا يُدعون لملتقياتهم، ربما لأن هاجسي لا يناسبهم. بيتي ومشغلي يبعد أقل من ساعة بالسيارة عن مدينة المنكّب الصغيرة، تلك التي جاءها من سورية زملاء وأشباه نحاتين على مدى دورات خمس (في الموقع نفسه خبر عن هذا) ليتركوا أعمالاً غالبيتها تجعلك تشعر بالخجل فتحاول إقناع الزملاء الإسبان أن تلك الحجارة التي لا تقول شيئًا لا تمثّل النحت السوري، بل النحت الرسمي في سورية، وكل ما هو رسمي في سورية وغيرها من الجغرافيات ضحل بالضرورة.
أشباه النحاتين يدعون، عموماً، من يماثلهم في الشبه.
المصيبة تكمن في سويّة الهمّ. وفي أن المرتزقة كُثر.
رأيت في الموقع صوراً للأعمال. وعلى الرغم من أن الحكم على منحوتة عبر صورة وحيدة لا يخلو من المخاطرة، إلاّ أن تجربتي غير القصيرة وخبرتي بالملتقيات، ومصادفتي لبعض من شارك في الملتقى الدمشقي في فعاليات مماثلة سابقة، كل هذا يسمح لي بقول ما يلي: لم أر سوى عملين يحملان ما يمكن تسميته بالهمّ النحتي. العملان للألماني كريستوف تراوب وللتركية سونغل تلك.
ما تبقى من الأعمال، غالبيتها، لا تخرج عن إطار الزخرف. تعطي الانطباع ذاته لو رسمت على رقعة ورق، وتلك التي اعتمدت جسد الإنسان أو جزءاً منه فقد بيّنت المعالجة الخلل في الأرضية الأكاديمية الصلبة، فتقول في حال كهذه: لو اشتغلوا بالزخرف لكان أقلّ إيلاماً.
ما الداعي لكل هذا الجهد ومعاندة الحجر؟ هل النحت هو مجرّد وضع كتلة في حيز ليصطدم أو يتعثّر بها الناس؟ أو يتجنّبونها لأنها لا تقول شيئًا؟ أم أن هاجس النحت شيء آخر؟
بالطبع، هو.. أشياء أُخرى.
أن تحاول إدهاش الناس بمحاكاة برغي وعزقة ليس نحتًا (الفكرة تستند لما عرف منذ أكثر من نصف قرن باسم "ريدي ميد"، لكنه موضوع آخر)، ذلك أقرب إلى مهنة السيرك، كحركة اليوناني أنطونيس ميرودياس البهلوانية.
الفن ليس في الإدهاش، إنما يلجأ إلى ذلك العاجزون.
أعرف أن في سورية (وفي كل الجغرافيات) طاقات كامنة تنفجر مبدعة لو تسنى لها الإعداد السليم، لكن هذا الشرط شبه منعدم، وعلى التشكيلي الشاب الاعتماد على نفسه وعلى عمله.. عمله الشاق الذي لا ينتهي.
لا يمكن أن تحاول النحت (لأننا نحاول، ليس أكثر) ما لم تدرس الفلسفة، ما لم تتشبّع بالأدب والتأريخ، ما لم تلج عالم الموسيقى والشعر وإبداعات حركة الجسد في الرقص والإيماء، ما لم تتفاعل مع معاناة الناس ومشاغل سمّان الحارة، ما لم تشعر (أو تتعلّم الشعور) بما قاله ماركس وغيره: "كل ما هو إنساني يخصّني"، ما لم تتسقّط كل ما قد يفيدك أينما كان، في متحف أو مسرح أو موقع أثري، وبدءاً من برعمة نبتة ما إلى انفجار نجمة في الفلك.
ولا بد، إن أمكن، الاستعانة بلغتين أو أكثر. إن من يتصدى لهذا الهاجس التثقيفي (عتبة الولوج إلى النحت) سيكتشف أنه لن يصل وأن الغاية في المعرفة تزداد بعداً.. آنذاك يكون مشروع النحات على الطريق السويّ.
قالها فلوبير: "الموهبة هي حصيلة اثنين: خمس بالمئة من الإرادة وخمس وتسعون من العمل".
لكن أشباه النحاتين عندنا وصلوا منذ زمن. يلقبون أنفسهم بالفنانين ويدلون بتصريحات! لأنهم ختموا الدرس! كما يقال.
لذا يعتريني الحزن والغمّ.
زارني منذ أيام رهط من طلبة الفنون الإسبان يبتغون رؤية أعمالي والدردشة. أبدوا فضولاً لم يتبدّ لدى "زوار" المنكّب من السوريين على مدى خمس سنوات، عدا استثناءين زاراني خلسة وقالا لي جوابًا لتساؤلي: إنهم يخافون أن يُعرف في سورية أنهم التقوا بك!!
ربما كي لا ينغلق في وجوههم باب الدعوات والارتزاق.. 
تحدّثت مع الشباب الإسبان عن النحت والموسيقى والأدب (ثمة شاعر تشيلي شاب كان بينهم) وتاريخ الأندلس وعن.. "موهبة" فلوبير.
كلما تصوّرت عودتي إلى بلدي، بعد 23 سنة من النفي الذاتي، وقبل أن تنتهي رحلة الحياة هذه، أرى نفسي أعمل في خلوة، منعزلاً.. وبعيدًا عن غوغاء "النحت" الرسمي.
ولن أغلق الباب، ليأتني من يشاء لنتساعد في البحث عن النحت.. لأننا ممّن لم يختموا الدرس بعد.
 
 
 
increase حجم الخط decrease

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب