الإثنين 2013/12/16

آخر تحديث: 01:59 (بيروت)

فيلم "حنة آرندت".. لزمنه وزمننا

الإثنين 2013/12/16
فيلم "حنة آرندت".. لزمنه وزمننا
باربرة سوكوا في مشهد من الفيلم
increase حجم الخط decrease
تضمنت بانوراما الفيلم الأوروبي بالقاهرة، الذي اختتم عروضه الأسبوع الماضي، عرض فيلم "حنه آرندت" الذي أخرجته الألمانية مارغريت فون تروتا، وهو يعيد قراءة الفيلسوفة اليهودية الألمانية حنة آرندت (1906-1975) التي تحظى بمراجعات واسعة في أوروبا اليوم. وذلك من خلال القضية المحورية في الفيلم، وهي محاكمة القائد النازي، أدولف أيكمان، الذي تورط في العديد من جرائم الهولوكوست، إذ يتم اختطافه من الأرجنتين ليحاكم في القدس العام 1961، وتطلب مجلة "نيويوركر" الشهيرة من آرندت متابعة القضية وكتابة تقرير عنها، فتسافر إلى القدس وتكتب مقالاتها الجدلية التي قلبت اللوبي الصهيوني ضدها في 1963، والتي تتحول إلى نظرية فلسفية تنشرها في كتاب "أيكمان في القدس.. تقرير حول ابتذال الشر".

يعرض فيلم فون تروتا لقطات تسجيلية للمحاكمة الشهيرة تذكرنا بأفلام أخرى سجلت محاكمات قادة النازية، كان أشهرها فيلم "محاكمات نورمبرغ" العام 1961، وهو أقل عمقاً وإشكالية من فيلم فون تروتا. لكن الأهم من الطابع التسجيلي، هو تصوير الفيلم لنشأة نظرية آرندت حول "ابتذال الشر"، وذلك عبر استعراضه لحلقات النقاش بين نخب المثقفين والأصدقاء في سنوات الستينات الصاخبة، وتجسيد التفاصيل الانسانية لشخصية آرندت وعلاقتها بزوجها هنري بلوتشر، الشيوعي القديم، و بمديرة أعمالها. هكذا نتابع تكوّن تلك النظرية وتطورها حتى تتبلور في النهاية لتجابه بها المعارضين الشرسين لها. فنظرية آرندت اعتبرت أن أيكمان مجرد شخص عادي، موظف ينفذ الأوامر. وتبدى لها شخصاً ليست لديه القدرة على تمييز الخير من الشر طالما أنه فقد القدرة على التفكير، فهو إذاً ليس وجهاً شيطانياً، لكنه تجسيد لغياب التفكير لدى النوع البشري، بحيث لا يعي أو يتخيل عواقب طاعته العمياء.

وكان لهذه المقالات وقع الصاعقة، ليس فقط على المجتمع الصهيوني العالمي، بل أيضا على أصدقاء آرندت المقربين. فطلب منها أحدهم أن تقطع أي صلة لها به. واتهمها صديق آخر حميم مقيم في القدس – في إحدى مشاهد الفيلم الدالة - بأنها تتعاطف مع الجلاد (أيكمان) أكثر من الضحية (أبناء شعبها)، وكان الصديق هذا دأب على الاختلاف الودي معها لكنه في هذه المرة يزدريها وهو على فراش الموت.

تدق معاول فيلم "حنة آرندت" بقوة في واقعنا العربي اليوم. فالأجواء المشحونة التي تقودها الجموع الغوغائية، تتقاطع مع مشاهد آنية تستغرقنا في أكثر من بلد عربي، حيث تتعالى صيحات الانشقاق المحمومة "من ليس معنا فهو ضدنا"، وتقام محاكم التفتيش لكل من يجرؤ على التغريد خارج السرب. إلا أن آرندت تجيب بنفسها، من قلب الفيلم، مثمِّنةً فردانية التفكير، والتي تخص النوع الإنساني وحده، ويحلق خارج القوالب الجاهزة، فتدافع عن وجهة نظرها في محاضرة أشبه بالمرافعة داخل قاعة امتلأت بطلابها: أن التفكير هو عمل يقوم به المرء بمفرده وليس ضمن اصطفاف شعبي، مشيرة إلى أن أيكمان كان يمكنه - إن فكر- أن يثور ضد الأوامر بدلاً من تنفيذها بشكل آلي. وتخلص في النهاية إلى أن: "الشر هو غياب القدرة على التفكير، جماعة كانت أم فرداً. أن نكون بشراً ننتمي إلى الانسانية يعني أن نفكر، فالذي ينفذ الشر لا يفكر، وهنا لا يعد إنساناً". بينما أنه "من طبيعة النظام الشمولي نفسه، وربما البيروقراطية أيضاً، أن يتحول البشر إلى موظفين، في (تروس) الإدارة، وبهذا يتم نزع الإنسانية عنهم"، كما كتبت آرندت في مقدمة الطبعة الثانية من كتابها "أيكمان في القدس" رداً على معارضيها.

لم تكتف آرندت بالجهر بنظريتها عن الشر التي ألّبت الرأي العام ضدها، بل راحت في أربعينات القرن الماضي، تشكك في أرقام المحرقة النازية شأنها في ذلك شأن المؤرخين الجدد الذين علا نجمهم في التسعينات، أي بعد خمسين عاما، معترفين بحق الفلسطينيين في الأرض. وهي التي ذاقت معسكرات النازية في باريس العام 1940، ونجحت في الهرب إلى الولايات المتحدة، حيث استقرّت، تدرس في جامعاتها، وكتبت كتابها الأشهر "جذور الشمولية". هكذا، يلقي الفيلم الضوء على نقد آرندت العنيف لموقف يهود أوروبا الذين خضعوا للمجازر ولم يثوروا، معلنة إدانتها بشكل خاص لقيادات إسرائيلية في مجلس اليهود في الأراضي المحتلة، تواطأت مع الجلاد النازي في نقل اليهود إلى معسكرات الموت.

"حنة آرندت" شاركت في كتابته باميلا كاتز، مع المخرجة مارغريت فون تروتا (التي بدأت كممثلة في السبعينات ضمن تيار السينما الألمانية الجديدة وأخرجت في 1985 فيلماً تناول قصة حياة "روزا لوكسمبورغ" المناضلة الماركسية الثورية). وخرج الفيلم إلى صالات العرض، مطلع 2013، ليس فقط ليلفت النظر إلى سينما مميزة للمرأة، أو لإعادة قراءة الألمان للفترة النازية، لكن أيضاً لتسليط الضوء على نموذج فيلسوفة ألمانية يهودية ألقت أفكارها الفلسفية الحرة بجرأة، ناقدةً بشكل جذري لا إنسانية الحركات النازية والحركات الصهيونية.
بل إن إعادة قراءة فكر آرندت اليوم في العالم العربي، يزيح الغبار عن أفكارها المهمة التي أعادت من خلالها النظر في المسألة الصهيونية، وهي أفكار لم يتعرض لها الفيلم. فآرندت كانت قد كتبت مجموعة مقالات بعنوان "أوشفيتز والقدس"، في خضم الحرب العالمية الثانية العام 1944، نددت فيها بالحركة الصهيونية بالنظر إلى مستقبل الفلسطينيين "مما لا يدع لهم أي خيار آخر سوى الهجرة الاجبارية أو القبول بوضع المواطن من الدرجة الثانية".

hannah-arendt-2.jpg


increase حجم الخط decrease