الجمعة 2013/11/29

آخر تحديث: 01:40 (بيروت)

باسم سمير: يا للهول!

الجمعة 2013/11/29
باسم سمير: يا للهول!
"الكرسي"
increase حجم الخط decrease
  البومة. تتصدر هذه الأيقونة -نذير الشؤم والخراب- إحدى لوحات باسم سمير، وقد رُسمت فوق جدار مطل على فضاء مهمل تتراكم فوقه طبقات الضجيج والفوضى من أجساد آدمية متهاوية هنا وهناك. ورود اصطناعية عملاقة، وأعمدة وألواح متناثرة، مثل أطلال بيت مهدّم. تتبدى هذه اللوحة كمشهد كارثي في مسرحية. لكنه رغم الصخب والفوضى، يبدو منمّقاً ومجهزاً. مشهد جدير بفوتوغرافي حاذق، وقد لا تجد ما تعبر به عن الصدمة إلا تعبير فنان المسرح الأثير يوسف وهبي "يا للهول". وهي الصيحة نفسها التي أطلقها باسم ليجعلها عنواناً لمعرضه الأخير.

تشير لوحة البومة إلى مجمل أعمال الفنان المصري الشاب، وتعبر عن رؤيته الفنية الفلسفية. إذ حاول من خلال عدسته والتجهيز في الفراغ أن يعكس تراكمات اللحظة بكل ما تحمله من تدهور ثقافي، وأزمة هوية، وتغيرات مزعزعة في البنية المجتمعية، وفوضى متعددة المستويات يرجعها هو إلى سنوات طويلة من تجرع الفساد في صمت. يسجل باسم اللحظة كما تتراءى له، بعيداً من الأحكام السلبية وجلد الذات، مدركاً أن دوام الحال من المحال، ومفسراً فوضى السياسة والمجتمع اليوم بأن "كل شيء اليوم لدينا جديد، كل شيء نعيد اكتشافه ونختبره من جديد بعد سنوات طويلة". ولهذا لجأ في معظم الأعمال إلى النص المكتوب، وتحديداً المثل الشعبي، كعنصر أساس في بناء المشهد. فكان استخدامه له حداثياً بامتياز، بحيث يناقض المثل الشعبي محتوى المشهد. ففي لوحة البومة تقرأ المثل الشعبي منشطراً على جانبي اللوحة: "أهي ليلة وفراقها صُبح"، بمعنى الصبر على سواد الليل ومكاره الأيام لأنها ستمر بمجرد بزوغ الفجر القريب. 

وإذا كانت هذه الأعمال تنتمي إلى عالم الفوتوغرافيا الذي مرّ بطفرة عالمية ملحوظة منذ سنوات، فقد حرص باسم سمير ألا يمارس التصوير الضوئي بشكله التقليدي، حتى وإن اعتمد على اللقطات والمشاهد البارعة، بل راح يصنع عالماً موازيا بتفاصيله الدقيقة. فقد صارت الفوتوغرافيا بالنسبة إليه معتمدة على التجهيز في الفراغ، وهو ما يوضحه لجمهور الزائرين من خلال شريط فيديو يظهر لهم كواليس العمل ومراحله الخافية. إذ يعدّ ساحة التصوير بشكل مسرحي درامي، كما لو كان يقوم بتجهيز في الفراغ، لكل عناصر السينوغرافيا التي ستساعده في إنجاز المشهدية التي ينشدها، فتتحول الجدران الفقيرة من الطوب الأحمر في كراج إحدى البنايات إلى جدارية يقوم الفنان بطلائها وزخرفتها في كل مرة حسبما يتطلب العمل. أما مع الشخصيات، فيلجأ باسم إلى مؤدين، يختار لهم الملابس بألوانها وخاماتها وتصميماتها وإكسسواراتها، يمضي الفنان: "كل مفردات العمل أصنعها بنفسي حتى الأزهار الضخمة الملونة التي تمثل بالنسبة إلي رمز للمجتمع". 

لم تعد الفوتوغرافيا اليوم، نقيض التصوير الزيتي، بل صارت شعاراً لفنون ما بعد الحداثة، المنفتحة على بعضها البعض، حتى أن الناقد الفرنسي رولان بارت أشار إلى ذلك مبكراً لتتناسب مقولته تماماً مع ما يقدمه الفنان المصري: "لن تدرك الفوتوغرافيا طريق الفن من طريق التصوير، بل بفضل المسرح". فيقوم باسم بمسرحة الفضاء قبل أن تلتقط عدسته دراما الصورة، معرباً عن حلمه ببساطة شديدة: "هدفي أن أحدث نقلة في فن التصوير الضوئي". 

1--BOMA-(1).jpg
"البومة"

أما عكوف الفنان على صنع طبقات متعددة للعمل الفني، بدءاً من الجدارية والنقوش والحروف التي قد تحيل إلى فن الغرافيتي، فتعكس تأثر الفنان بتجربته السابقة في معرض الثورة، حيث شارك في معرض "من أجل مصر" في آب/أغسطس 2011، ورصد بعدسته الرسائل النصية التي خطها الثوار على جدران ميادين التحرير. إذ يؤكد الفنان أن هذه التجربة جعلته أكثر حساسية في التعامل مع الملامس المختلفة للأسطح وطبقاتها المتعددة التي تحيل إلى طبقات تأويل بدورها متعددة. "أظنني استلهمت كثيراً من المنتج البصري للثورة المصرية، حيث تحول الميدان من ساحة صراع إلى معرض فني، غاليري كبير يضم أعمالاً فنية حقيقية ذات رسائل قوية. كانت الذبذبات والطاقة في الميدان ملهمة". 

يصرّ المعماري باسم سمير أن تستمر الفوتوغرافيا هواية وغواية، وليس احترافاً وهو الذي نال جائزة اتحاد المصرين العرب في هامبورغ بألمانيا في 2010. يريد أن ينتقل بالتصوير ليصبح عالماً فنياً مغايراً يصنع كل مفرداته بنفسه، معتمداً على الرمز والمحاكاة الساخرة. إذ تزخر أعماله بمفردات شعبية مثل "الكردان، والمنخل، والجلابية الرجالي أو الحريمي، والنرجيلة". عناصر فولكلورية بامتياز لكنها تتخذ بعداً آخر في تجربة الفنان المفاهيمية، حيث يتخذ هذه العناصر لممارسة نقده للمجتمع، ووضع معاني الانتماء والتمسك بالهوية والذكورة والأنوثة في الميزان. ومع ذلك يظل هذا العالم السوريالي، المليء بالرموز المحملة بالنقد المجتمعي، قابعاً في وعي الفنان، يصعب على المتلقي أن يفك شفراته، إلا في حالات معدودة تعكس رموزاً متعارفاً عليها، مثل لوحة "الكرسي" التي نفذها في عمل مركّب لكرسي "الحكم"، من خشب الخيرزان المتهالك والمتكسر، بينما أيدي الرجال وأكفّهم تتطلع إليه في حمية وتهافت، وقد خط المثل الشعبي بمهارة أعلى الكرسي: "آخر الزمر طيط".  
 
increase حجم الخط decrease