تقهقر "المونة اللبنانية" يهدد مداخيل عائلات واستقلال النساء الريفيات

بتول يزبك
السبت   2022/07/30
هناك 840 تعاونية زراعية في لبنان تنظمها وتقود غالبيتها النساء (المدن)
المونة الشّتوية أو البلدية عادةٌ متوارثة لدى سكان الريف اللبناني، وتُعتبر من التراث الشعبي الرائج في طبقات اقتصادية متنوعة وخصوصًا المتوسطة (سابقًا) والفقيرة. وتُشكل المونة بأنواعها عنصرًا أساسيًا في النظام الغذائي العائلي. وهي البديل الصحيّ والاقتصادي للمنتجات الغذائية الصناعية المرتفعة الأسعار.

ينشط اللبنانيون في شهور الصيف، وخصوصًا النساء، في تحضير أصناف المونة الغذائية التّي تُحفظ في البيوت والمحال التجارية من دون حاجة إلى إضافة مواد صناعية أو حافظة لها، كالمكدوس (باذنجان مكبوس بالزيت) والكشك واللبنة والمربيات والمخللات ودبس الرمان والعنب، فضلًا عن البندورة المكبوسة والفاكهة المجففة والزعتر والزيتون.

جمعيات وأسواق
وفي خضم الأزمة الاقتصادية الضاربة، برز دور المرأة الريفية المعيلة لأسرتها والمساهمة في إنعاش السّلسلة الاقتصادية التّي تبدأ بالمزارع وتمرّ بالتاجر وصولًا إلى الأسواق المحلية والمعارض الغذائية والمستهلكين. لكن الانهيار الاقتصادي زعزع آخر مصادر الأمن الغذائي للعائلات المفقرة.

فأسعار المواد الأوليّة لصناعة المونة اللبنانية في ارتفاع مُطرد، أدى إلى تقليص الكميات المنتجة وقلة جودتها. لكن بعض الجمعيات الأهلية في مناطق الأطراف كبعلبك والهرمل والبقاع الغربي وجنوب لبنان، تعمل اليوم لدعم النساء العاملات ماديًا واجتماعيًا. ونشأت أسواق زراعية وغذائية محلية بديلة عن الأسواق المركزية الكبرى.

دور المونة في الأزمة
تحدثت فرح دياب -30 سنة، لبنانية، ربة منزل في ضاحية بيروت الجنوبية- لـ"لمدن" عن إيجابيات تخزين المونة الشّتوية سنويًا، وخصوصًا في الظروف المعيشية الحاليّة وفقدان اللبنانيين قيمة رواتبهم. وفرح وزوجها يعملان سويًا في القطاع العام، وهي تقول: "حلّت المونة محل السّلع الغذائية التّي كنت أشتريها قبل الأزمة. بتنا اليوم نستهلك الكشك الأخضر بدل الألبان والأجبان الطازجة مرتفعة الأسعار. فالكشك لا يحتاج لتبريد في موجة انقطاع الكهرباء. واستبدلنا اللحوم بأسعارها الخيالية بالقورما المصفاة، والفواكه المجففة كالزبيب والتين والمشمش والكرز بدل الفاكهة الطازجة. الشرابات البلدية بدل العصائر والمشروبات الغازية، والمربيات حلت محل الحلويات والشوكولا. والبندورة المكبوسة للطبخ عوضًا عن شراء الكيلو شتاءً بـ40 ألف ليرة".

وأضافت: "لا شك في أن هذه المونة التّي تعدها لي والدتي سنويًا، قد حالت دون انهيار أسرتي ووصولي إلى مهانة اقتصادية يعاني منها محيطي. لقد عززت شعوري بالأمان في هذه الأزمة الخانقة. ولا أنكر أني أفضل طبعًا استئناف نظامنا الغذائي السّابق. لكن للضرورة أحكامها. استغنينا عن الكماليات، ببديل صحيّ واقتصادي وعملي".

انتعاش الأرياف
تشهد السّوق المحلية اللبنانية طلبًا مطرد الازدياد على المنتجات البلدية ومنها المونة، في الظروف الاقتصادية الحاليّة، وانقطاع الكهرباء الذي  يحرم المستهلكين من تخزين السّلع الطازجة لتفادي فسادها. وأدت جائحة كورونا والحجر لمنزلي إلى عودة كثيرين إلى الأرياف والميل إلى الصناعة المنزلية، للوقاية من الفيروس المستجد.

أما في الأرياف والأطراف اللبنانية والقرى الممتدة بين سهل البقاع وجرود الهرمل، فأعتادت العائلات على مرّ السنين وفي ظلّ التهميش وشحّ الموارد الأوليّة، على اعتماد المونة بصورة دائمة ويومية في نظامها الغذائي، بل اعتمدت تجارتها مصدر رزقها. وذلك ببيعها محليًا أو تصديرها إلى بلاد الاغتراب اللبناني. واعتاد المزارعون المحليون والعاملون في الأسواق البلدية على انتعاش الصناعات البيتية طيلة موسم الصيف. ونشأت سلسلة اقتصادية ساهمت في الإنماء، وفي خلق مساحات أهلية منتجة بديلة قاعدتها العاملات والعاملون في تحضير المونة. لكن هذه المساحات مهددة اليوم بواقع الصعوبات المستجدة.

حرف يدوية مهددة
لا شكّ في أن هذه الحرف اليدوية والتراثية (صناعة المونة) باتت مهددة كباقي الحرف في لبنان. فالرساميل التّي يملكها العاملون والعاملات وتمول هذه الصناعة صارت ضئيلة، مقارنةً بالأسعار المطروحة في السّوق. وقلت قدرتهم/هن على شراء المواد الأوليّة التّي ارتفعت أسعارها بشكل جنوني. وتوفير الطاقة اللازمة من كهرباء ومياه، وتأمين مستلزمات التغليف والتعقيم وأدوات الانتاج الحديثة والعملية، صارت صعبة. ما اضطر كثيرين إلى تقليص كميات المونة المنتجة. والبعض فضّل الحفاظ على الكمية بغض النظرعن النوعية والجودة. ما جعل نسبة من المستهلكين يتوجسون من شراء المنتجات مجهولة النوعيّة. فأدى ذلك إلى تباطؤ إضافي في حركة سوق المونة الشّتوية. وبات تعويل أغلب العمال على تصديرها إلى المغتربين صيفًا، بأسعار مرتفعة.

وفي هذا السّياق تتحدث سماهر الجبلي (45 سنة، لبنانية) عن انتاج المونة البلدية صيفًا في مدينة بعلبك. وهي تنتجها منذ أكثر من سبع سنوات. وتقاعدت من وظيفتها كممرضة منذ مدة، واستعادت كل ما تعلمته من والدتها لإتقان هذه الحرفة، وللحفاظ على استقلاليتها الماليّة من خلال مردود بيعها. وهي تقطف المشمش والكرز موسميًا من بساتين زوجها وأهلها، وتقوم بتحضير المربى، وتجفف كميات منها. وتصنع المكدوس (الباذنجان المكبوس بالزيت) الذي تشتريه من أحد المزارعين.

غير أنها في السّنتين الأخيرتين واجهت صعوبة بالغة في إعداد منتجاتها. وهي تقول: "في بداية الأزمة استدنت مبلغًا من أحد الأقارب لشراء المواد الأوليّة، على أن أوفي ديني تباعًا بعد تصريف الانتاج، معتبرةً أنها أزمة وتمر. لكن اليوم أجد أنه من المحتم عليّ زيادة أسعاري وتقليص كمية الانتاج، لصعوبة تأمين الرأسمال الكافي بالتوازي مع أسعار السّوق. فكيلو البرغل لإعداد الكشك مثلًا، بات 30 ألف ليرة، بينما كنت سابقًا  أشتري 30 كيلو بهذا المبلغ! أما الجوز الذي يستعمل في المكدوس فكان الكيلو منه لا يتعدى 20 ألف ليرة، بينما اليوم تجاوز سعر 200 غرام من النوع الرديء 80 ألف ليرة. علمًا بأن كل كيلو مكدوس يحتاج لهذه الكمية. لذا صرت أزيد كمية الفليفلة في حشوة المكدوس لتعويض النقص!".

منتجون كثيرون في هذا القطاع باتوا يقلصون كميات انتاجهم أو يعتمدون  حلولًا بديلة: استبدلوا حليب الماعز -الذي بات ثمن 5 ليترات منه 150 ألف ليرة- بحليب البقر لصناعة الكشك. وفي المكدوس زادوا كمية الفليفلة لتعويض الجوز. واختاروا الباذنجان الرديء النوعيّة بدل الباذنجان غالي السّعر. أما المراطبين لتوضيب المنتجات وكبسها، فقد بات معظمها معاد التدوير: يعمدون إلى جمعها على مدار العام وتعقيمها.

وتجاوز سعر كيلو الكشك اليوم 400 ألف ليرة. وكيلو المكدوس تجاوز عتبة 200 ألف ليرة. والزعتر 300 ألف ليرة.

النساء رائدات هذا القطاع
في السّنوات الأخيرة راج عمل التعاونيات الزراعية، التّي تنتسب إليها العاملات والمنتجات في قطاع تصنيع المونة الشّتوية، لتنمية عملهن وللاستفادة من الخبرات المتبادلة، ومن الدعم الذي تقدمه الجمعيات والمنظمات المحلية والدولية، فضلًا عن احتمال تصريف إنتاجهن بصورة أوسع وأسعار مقبولة. وهذا مكّن نساء عدّة من استقلالهن اقتصاديًا، وتعزيز أدوارهن الاجتماعية. إذ لطالما لوحظت الفجوة القائمة بين المرأة المتمدنة والريفية. أما اليوم فراحت تتضاءل فرص الريفيات في البروز بأدوارهن الحالية.

هناك 840 تعاونية زراعية في لبنان تنظمها وتقود غالبيتها النساء، رغم غياب وزارة الزراعة غيابًا تامًا، وخصوصًا في البقاع الشمالي. وهناك عشرات المعارض والأسواق التجارية التّي تُقام على مدار السّنة، بدعم جهات محلية ودولية لهذه المشاريع، إضافة إلى الدورات التدريبة.

لكن مصير هؤلاء النساء مهدد اليوم، وكذلك استقلالهن المادي. فعبء الأزمة المتضخم بات يؤثر سلبًا على صناعة المونة البلدية. وباتت النسوة مضطرات لاجتراح حلول بديلة للحفاظ على مهنتهن. والجمعيّات والتعاونيات الزراعية بطبيعة الحال لا يمكنها سد الفجوة الهائلة التّي أحدثها تأرجح الدولار، وكبح فوضى السّوق السّوداء.

وإذا كانت النساء تشكلن عصب هذا القطاع، فإن التحديات المفروضة قابلتها بعض النسوة بإصرار وعزيمة مضاعفة لضمان بقاء واستمرارية هذه الحرفة التّي أتاحت لهن فرص العمل والاستقلال.

هذه الحرفة اليدوية بحاجة إلى دعم وتمكين، لأنها وجه من أوجه لبنان التراثي. ومصدر رزق لمئات العائلات وفرصة لاستقلال وتطور نساء الريف المهمشات، وعنصر لإنماء قطاعي الزراعة والصناعة المحليين في هذه الظروف الصعبة.