مشاهد المتطوّعين في بيروت المنكوبة: لكنس الركام والسلطة

نادر فوز
الجمعة   2020/08/07
بالفيديو: طرد وزير التربية بالمكانس من شوارع بيروت
مشهد أول
طرد ناس ومتطوّعون وزير التربية، طارق المجذوب، من شوارع الصيفي خلال حضوره لادعاء المساعدة في تنظيف الشوارع من الركام. صرخوا بوجهه "إرحل، استقِل، الشعب يريد إسقاط النظام". أجبروه على المغادرة بعد أن رفع بعضهم المكانس في وجهه. وبعد أن أدار ظهره قاموا بملاحقته بالمكانس نفسها، كأنهم يستكملون عملهم التطوّعي بكنس ما لا يلزم من شوارع بيروت. مشهد متكرّر لما حصل مع وزير العدل، ماري كلود نجم، أمس الخميس. حاصروها، رشّوها بالمياه، شتموها، حمّلوها مسؤولية الجريمة التي وقعت، إلى أن عمل الجيش على إخراجها من الشارع.

خلاصة أولى
الناس لا تريد قتلة يحكمون ويدّعون مشاركتها الصعاب. لا تريد لمجموعة القتلة والفَشَلة أن تحكم. لا تريد محتلاً جديداً بشعار الدولة اللبنانية. الناس وصل إليها الموت المنظّم في انفجار مرفأ بيروت في 4 آب. الناس اعتبرت نفسها ماتت مع من سقطوا. فعلياً لم يعد لديها ما تخسره. اسم رئيس الجمهورية، الذي يحميه الدستور، بات أرضاً. ضاعت صورة العهد بين الركام الذي خلّفه من جريمة المرفأ. "إذا نزلوا الشارع، سنأكلهم بأسناننا"، يقول الناس في الجميّزة والصيفي ومار مخايل. وفعلياً، سيفعلون ذلك.

مشهد ثانٍ
في الشارع الرئيسي في الجميّزة، اعتدت عناصر من الجيش اليوم على أحد الناشطين الذين يتطوّعون لرفع الأنقاض وكنس الشوارع ودعم أهالي المنطقة، نتيجة المأساة والموت والدمار جراء جريمة انفجار مرفأ بيروت. سبب الاعتداء غير معلن، إلا أنّ الشاب ضرب وسالت الدماء من فمه ووجهه، وعملت العناصر على محاصرته ومحاولة توقيفه، لتنهيها جموع الناشطين من حولها عن ذلك.

مشهد ثالث
على بعد أمتار من هذه الحادثة، عنصر في قوى الأمن الداخلي يدخّن سيجارته وحوله المتطوّعون يعملون في الكنس ورفع الركام. كان ينقصه فقط أن يرفع رجليه حين تصل المكنسة إليهما، أن يطلب فنجان قهوة أو شاي، ويتابع حلقة أخرى من الاستهتار الرسمي والحكومي. كان ينقصه خلع جزمته العسكرية وطلب تنظيفها طالما أنّ "هيك هيك التنظيف شغّال".

مشهد رابع
في الليلة الثانية لنكبة بيروت، وصلت شاحنات صغيرة إلى الشارع بين مستشفيي "الروم" و"الجعيتاوي"، وعملت على تحميل كل ما تيسّر من المؤسسات والمحال المتروكة بلا زجاج وأبواب. أفرغت كل ما فيها في صناديقها، واختفت من الشارع. ربما زارت حيّاً آخر في محيط المنطقة المدمّرة، لتزيد من نكبة أهله وتضاعف خساراتهم.

خلاصة ثانية
عجزت الدولة اللبنانية، بمؤسساتها وهيئاتها، عن العمل في رفع الأنقاض وتنظيف ما تهدّم. عجزت الدولة اللبنانية، عن اكتشاف المواقع المحتملة لناجين أو جثثهم تحت الركام. عجزت الدولة اللبنانية عن إدارة الملف بمختلف جوانبه، بعد أن اقترفت الجريمة بحق الناس وأرزاقهم. عمل المتطوّعون على مدّ الأحياء المنكوبة بكل أشكال الدعم. وعملت فرق الإنقاذ الأجنبية على التنقيب والبحث في مكان التفجير. أما الدولة فتقف عاجزة، تؤكد لمواطنيها أنها انتفت، لا دور لها لتعلبه ولا قدرة ولا خطة ولا سياق.

مشهد المتطوّعين
قامت فرق المتطوّعين في منطقتي الجميّزة ومار مخايل بكل ما يجب فعله لدعم المنكوبين. حضروا بمعدّاتهم البدائية للوقوف إلى جانبهم. كل أحضر مكنسته واشتغل. آخرون جمعوا عبوات المياه ووزّعوها، وبعضهم وزّع الخبز، وآخرون مناقيش. لم يوفّروا شيئاً إلا و"بلّوا" يدهم به دفاعاً عن شعب ومدينة منكوبَين ومتروكين ليأس وإحباط ما بعد القتل. الدولة سقطت، غطّت في سبات رؤسائها ومؤسساتها. فكانت مفاهيم "التطوّع" و"التعاضد" و"النجدة الشعبية" حاضرة لتفادي جريمة أخرى ترتكبها الدولة بحق الناس.

تنوّع التطوّع
في الجميّزة، مجموعات من تلامذة مدارس بيروت أتت بتنظيم ذاتي إلى عدد من المباني لتقديم العون. أخرى جامعية بدت أكثر حرفية في عملها وتنظيمها، مجهّزة بالكمامات والإضاءة. ثالثة محترفة بالكامل، حضرت من بلدات وبلديات لبنانية مختلفة من الشمال والبقاع وصيدا. رابعة، تشكّلت تنظيمياً بفعل تنظيمات ثورة 17 تشرين، وكانت جاهزة للحركة. وجمعيّات أهلية ومنظمات من المجتمع المدني يعمل كلٌ بحسب اختصاصه. مهندسون من مختلف القطاعات، ممرضون وممرضات، مديرو عمليات ومنسّقو اتصالات، وآلاف الأفراد الذين وجدوا أنفسهم مضطرين إلى ملء الفراغ الرسمي.

جنود مدنيون
"هذه مدينتنا"، يقول أغلبهم، أو "نحن شعب واحد" و"هذه جريمة قتلتنا جميعاً". جاؤوا إلى الشوارع بعد ساعات على وقوع التفجير، حين كان بعض المنكوبين المباشرين "لا يزالون في منازلهم يستغيثون". وبينما يعمل هؤلاء في المهمّات الموكلة إليهم، لا ينفكّ أهالي المنطقة يعبّرون عن صدمتهم مما يحصل حولهم. صعقوا يوم التفجير، ويصدمون اليوم بكم الحب والتعب والاهتمام التي تبذله مجموعات المتطوّعين حولهم. يرون جنود فعليين بثياب مدنية يزيحون عنهم جزءاً من الهّم المركزّ على صدورهم. يأتي هذا النشاط التطوّعي والشعور بالانتماء الواحد والهمّ المشترك ليعيدوا التأكيد على أنّ في البلاد بعض من الأمل.

صنع هؤلاء المتطوّعين دولة ظلٍّ همّها الناس. دولة شعارها المكنسة، هدفها رمي كل الدمّار ومسبّبيه في القمامة، ومن دون إعادة تدوير.