فتى الكشفيّة الناصري.. يراقص امرأتين ويختبر طائفية الجيش

محمد أبي سمرا
الثلاثاء   2020/02/04
من قائد كشفي يحمل مسدساً في الضيعة إلى جندي يحمل مسدساً وبندقية في كل مكان (Getty)
جزء من سيرة فتى لبناني يروي ما عايشه في طفولته الأولى في عين سعادة بجبل لبنان، ثم عودته إلى بلدة أهله، شبعا، وقضائه سني مراهقته فيها سارداً التحولات التي شهدها والتي أخذت لبنان ومجتمعاته إلى الحروب وفوضى التنظيمات المسلحة

كشّافة الحرب

في صوري الفوتوغرافية التي تعود الى العام 1979، غالباً ما أظهر متقدماً عراضات الفوج الكشفي في ملعب مدرستي، مدرسة شبعا الرسمية، وفي ساحتها. في يدي عصاً كانت لوالدي في شبابه، أيام كان يرعى الماعز في الجرد والمزارع. على خصري مسدّس معلّق بحزامي الجلدي. حول عنقي ينعقد فولار كشفيّ ملون، يتدلى على صدري. خلفي أكثر من خمسين من تلامذة المدرسة، أمثالي، في ثيابهم الكشفية التي زودني بها تنظيم مصطفي سعد الناصري في صيدا، فوزعتها عليهم مجاناً، وسمّيتهم كشّافة الشهيد معروف سعد في شبعا .


اليوم - وقد بلغت الخمسين من عمري - كلما نظرت إلى هذه الصور، يحضرني ذلك التيه المسترسل الذي أخذني في فتوتي المدرسية الكشفيّة وشبه العسكرية، ووسم سيرة حياتي كلها بالتهور، منذ بدايات الزمن الحربي اللبناني العام. فالمال الوفير الذي حصلت عليه من تنظيم مصطفى سعد الصيداوي، ومسدسي الحربي الذي اشتريته بمبلغ من ذلك المال، والثياب والمستلزمات الكشفية، كانت مصدر خظوتي في قريتي الحدودية. قد يكون ساعدني في ما أقدمت عليه أنني سليل عائلة جردية، يكثر الرعاة فيها، وحافظت على علاقاتها الموسعة الممتدة، وعلى نعرة عصبية عشائرية موروثة، فظلت فروع منها مقيمة على فطرتها الرعوية.

كان والدي قد هجر الجرد وقطعان الماعز، وعمل لحاماً في الضيعة، ثم عاملاً في مصنع بلاستيك بضاحية بيروت الشمالية الشرقية، فأقمنا في عين سعادة، وأمضيت سني طفولتي تلميذاً متفوقاً في مدرسة راهباتها الأنطونيات. لكنني لا أدري إن كانت إقامتي ومدرستي هناك لم تقويا على انتزاع نبرة الرعيان الجردية ولهجتهم الحادة من حنجرتي وصوتي، أم أنني استعدتهما بعد عودتي مع أسرتي الى الضيعة في العام 1973. ولا أدري أيضاً أن كان لهذا كله أثر واضح ومباشر في قوة شكيمتي، وفي تجاسري على اقتحام منزل مصطفى سعد في صيدا لطلب حظوته ومستلزمات فوج كشفي تابع لتنظيمه في ضيعتي، فأكسبني هذا دالَّة أن يسلس أكثر من خمسين تلميذ قيادهم لي في مدرستي.

لم يغوني هذا وحدي، بل جعلني مدار اعتزاز والدي وفخاره، بعدما صرت في مدرستي الرسمية أقوى نفوذاً بين تلامذتها من معليميها، حتى بين أولئك النافذين من محازبي "اتحاد قوى الشعب العامل" الذين أخذوا يهابونني. أمي بدورها طارت فرحاً وزهواً بي، فعلّقت صور عراضاتي الكشفية على جدار في منزلنا، وأخذت نساء الضيعة تحسدنها وتودَّدن إليها، كي لا تخيّب طلباتهن، كلما قالت إحداهن لصبي من أولادها: "روح يا ابني لعند خالتك أم محمد خلّيها تعطيك بذلة كشاف". مزهوّة كانت أمي تتكارم، فتعطي الصبي ما أراد، وتطلب مني أن أضمّه الى فوجي الكشفي، متضرعة الى الله أن يوفّقني ويسدّدَ خطاي، ويرضى مع نبيّه محمد عني في الدنيا والآخرة.

في المدرسة خاض معلمو "الاتحاد" الناصري السوري الولاء، حرباً ضروساً ضدي، وضد فوجي الكشفي التابع لتنظيم ناصري آخر، كان آنذاك لا يزال على قائمة موالي "فتح" الفلسطينية، قبل انقلابه إلى موالاة النظام السوري، غداة الحملة العسكرية الإسرائيلية على منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان، وترحيل مقاتليها عن بيروت صيف 1982. لكن هذه الولاءات لم تكن لتغيّر شيئاً في مجرى حرب النفوذ ومسرحها المدرسي والقروي، حيث نشبت جولات عراك بين فوجي الكشفي وتلامذة "الاتحاد" الناصري، شارك فيها المعلمون، مما حمل مدير المدرسة المسالم، الضعيف الشخصية والعصبية العائلية، على التخلي عن منصبه لمعلم من عائلتي يقود "الاتحاد" في الضيعة، علَّ عصبيته العائلية القوية وصلة القربى بيننا تمكّنانه من ضبط فوضى الحياة المدرسية، ومن كبح اندفاعي المشاكس، وتحدّ من المشاجرات شبه اليومية بين التلامذة.

لكنني سرعان ما بادرت الى حسم تلك المجابهة: في صباح نهارٍ دخلتُ الى مكتب المدير الجديد شاهراً مسدسي الذي وضعتُهُ على طاولة مكتبه، وقلت له: فلنبدأ من النهاية يا حضرة المدير، ولنضع جانباً ما بيننا من قربى وخلافات شخصية وعقائدية. في حال إقدامك على أي تصرف كيديٍّ حيال تلميذ من فوجي الكشفي، سأدمّر المدرسة على رأسك ورأس اتحادك للشعب الخامل. وقبل أن أتناول مسدسي عن الطاولة وأخرج من مكتبه، ختمت كلامي قائلاً: أعذر من أنذر يا حضرة المدير. وفي نهاية ذلك العام الدراسي أُلغيت الامتحانات الرسمية لشهادة المرحلة المتوسطة (البروفيه) في لبنان، بسبب الظروف الأمنية السائدة، فنجحت بتفوق في الامتحانات المدرسية التي أجبت كيفما اتفق عن أسئلة مسابقاتها.

طائفية ومهانة في الجيش
في نهاية ذلك العام الدراسي (1979 - 1980) رأى والدي أن ما أنا عليه مع فوجي الكشفي في الضيعة لن يدوم، فقال لي إن عليَّ أن أفكر في مستقبلي، ما دمتُ أحمل شهادة تمكنني من الدخول إلى الجيش اللبناني الذي يؤمّن لي راتباً ثابتاً. أعجبتني الفكرة وراق لي أن أنتقل من قائد كشفي يحمل مسدساً في الضيعة الى جندي يحمل مسدساً وبندقية في كل مكان. فشلت في دورتي امتحانات دخولٍ إلى الجيش تقدمتُ اليهما من دون واسطة أحد، لكنني نجحتُ في دورة ثالثة، لأن خالي توسط لي مع مقدّم في اللجنة الفاحصة التي تقدمت منها في ثكنة عسكرية في صيدا.

ما أن مثلتُ أمام اللجنة وسمع المقدم اسمي، حتى سألني عن خالي، ثم قال لي: مبروك، مع السلامة، وسلّم لي على خالك. في النهار الأول من أيار 1980 التحقت بالجيش اللبناني في ثكنة الفياضية. كنت في الثامنة عشرة من عمري، وفي ختام دورة تأهيل وتدريب استغرقت ثلاثة أشهر في حمانا، وقفت مع عناصر دورتي لنتسلَّم مستندات إلحاقنا بمراكز خدمتنا العسكرية في قطع الجيش وثكناته المختلفة. وحدي من بين عناصر الدورة قال الضابط إنني أُلحقت بفوج العديد الذي لم أفهم ماذا يكون، ورأيت زملائي ينظرون إليَّ مندهشين. ما هو العديد؟! سألت الضابط، فقال: لا تعلم ما هو العديد يا حمار؟!  ألم يقل لك مَنْ توسَّط لك ما هو العديد؟ كنت قد نسيت أن والدي كلّم في شأني جندياً في رتبة عريف من قرية تجاور قريتنا، لكنني قلت للضابط إن لا واسطة لي، فأخذ يهز رأسه متمتماً، فيما قال لي زميل يقف إلى جانبي أن أضحك في "عبي"، وإن فوج العديد عمله إداري في مقر قيادة أركان الجيش في وزارة الدفاع، ويتمنى عناصر الدورة جميعاً أن يُلحقوا به.

مسيحياً كان الضابط الذي تلا أسماءنا حسب مراكز إلحاقنا، فتذكرت أن موعد بدء دورة التدريب كان قد أُجّل لمرتين أو ثلاث في انتظار اكتمال عدد الجنود المسيحيين المفروض أن يساوي عدد المسلمين في الدورة، حرصاً على التوازن الطائفي في الجيش. لكن الدورة بدأت أخيراً، بعدد من الجنود الأغرار المسيحيين أقل من عدد المسلمين. قسوة التدريب طوال النهار، ومهانة أن يُحشر كالأغنام كل 25 غراً منا في هنغار واحد في الليل، لم ينالا من عزيمتي واندفاعي وسروري بأن أصير جندياً. أما بذاءة الضباط والمدربين وإهاناتهم وهم يكلموننا بنبرة ملوها التعالي والاحتقار، فسنحتُ عنها واكتشفت كم هي راسخة ومتفشية الحساسيات والنعرات الطائفية التي لم يكن لي عهد بدرجة قوتها وعمقها قبل دخولي سلك الجيش. فهي تعصف مكتومة في علاقاته الداخلية، ولا تخلو الإجراءات والمعاملات، إلاّ في ما ندر، من دبيبها المخنوق والخانق. لكن هذا كله لم يقلل من إصراري على اجتياز الدورة بسلام، لألتحق، أخيراً، بوزارة الدفاع في اليرزة، جندياً إدارياً للعديد، فأطّلعتُ على قوانين النظام العسكري وتصنيفات عقوباته وترميزاته، وبدأت عملي الإداري ما بين الثامنة صباحاً والثانية بعد الظهر.

أعجبني هذا العمل المميز وراق لي، فضلاً عن راتب شهري قدره 450 ليرة لبنانية، فاعتبرت أنني محظوظ ما دام لديَّ، بعد دوام وظيفي لا يتجاوز الساعات الست في اليوم، وقتاً طويلاً أصرفه حيثما أشاء وعلى هواي، مرتدياً ثيابي المدنية أو العسكرية، حسب رغبتي وإرادتي، إلاّ أثناء عملي في الوزارة، حيث كان عليَّ ارتداء الزي العسكري. أما مبيتي فكان غالباً في بيت خالتي في بيروت، بعد طوافي زائراً بيوت من أعرفهم من أبناء ضيعتي في أحياء العاصمة وضاحيتها الجنوبية.

رقص مع امرأتين
دعيت مرة الى حفلة عرس صبية من ضيعتنا، يقيم أهلها في حارة الناعمة. كنت فرحاً ومسروراً بنفسي، فلم أتوقف عن الرقص مع صبيّة تعرفت اليها في الحفلة، وأعجبتني. كانت شقراء جميلة ومنمنمة الجسم، وفي  الرابعة عشرة ربيعاً، ومضت مدة قصيرة على تركها المدرسة. بعد وقت من رقصنا معاً، سمعت امرأة تزغرد مرددة اسمي. كانت المرأة أم الصبية التي أراقصها، وأدت زغردتها الفرحة بي إلى زواجي من ابنتها بعد أشهر ستة، قبل تجاوزي التاسعة عشرة من عمري.

في ختام الليلة الأولى من عرسي في بيتنا في الضيعة، دخلتُ على عروسي، فاكتشفتُ أنها ليست عذراء، فكتمت الأمر عنها كأنني لم أكتشفه. صبيحة النهار التالي استدعيتُ أمها الى بيت أهلي، وطلبت منها أن نتحادث منفردين. كانت تشبه ابنتها كثيراً وتكبرها بـ 15 سنة، فاختليت بها في الغرفة التي نمت فيها مع عروسي. أطلعتُها على اكتشافي حال ابنتها، فاقرّتْ به، وأخذت تنتحب مقبّلة يديَّ ورجليَّ، متضرعة إليَّ بأن يستر الله عليَّ وعلى عرضي، وأن أستر على ابنتها التي قالت إنها شريفة ولم تخطئ، لكن الحظ خانها، والحياة قسمة ونصيب، والله عثّرها لأن شاباً "عكروتاً ابن عكروت" وأكبر منها بكثير، اعتدى عليها في غفلة منها وأغتصبها قبل بلوغها. كنت شديد الغضب، لكنني رثيت لحالها وحالي، وظللت صامتاً في حركتي المتوترة جئةً وذهاباً في الغرفة، ملتفتاً الى صور عراضاتي الكشفية المعلقة على جدارٍ من جدرانها تنيره خيوط ضوء الصباح المتسللة من شقوق النافذة المقفلة. أتذكر أن غضبي المتصاعد أخذ يخفت قليلاً أثناء حركة المرأة حولي باكية، واقترابها مني وإلصاقها جسمها بجسمي وهي تضمني لمرتين أو ثلاث إلى صدرها، ففوجئت بأنني أُثِرتُ واشتعلتْ رغبتي، فيما كانت تخبرني بصوتها الخافت المتقطع المنتحب، كيف غرّر ذلك الشاب بابنتها وأغتصبها. ثم ختمت قصتها راغبة إليَّ بأن نُبقي الأمر سراً دفيناً بيننا، فلا أدع عروسي تشعر بأنني اكتشفت سرها، وذلك لقاء أن تسعى، هي الأم، الى تسفيري إلى السعودية، حيث يعمل زوجها الثري، فأتمكن من تحصيل ثروة في سنتين أو ثلاث.

في ختام خلوتي بأم عروسي، وجدتني أقترب منها وأعانقها عناقاً ملتهباً، وألتهم شفتيها المبللتين بدموعها، فشعرت بأنها تستجيب شهوتي في تلك القبلة المفاجئة التي أنهيناها صامتين، وصامتين خرجنا من الغرفة، فبدا لي وجهها مشرقاً في ضوء الصباح. لكن القبلة تلك هي التي جعلتني أكفر بجنس النساء اللواتي تزوجت منهن تسعاً، وطلَّقتهن تباعاً، بعد طلاقي الأولى التي كتمتُ عنها ما روته لي أمها، وأكملنا أيام عرسنا في بيت أهلي في الضيعة، مدارياً كمدي وقرفي.

أخذ شعوري بأنني غُدِرت يتفاقم ممزوجاً بقلقٍ مضنٍ لا عهد لي به من قبل، ولا بذلك النفور المكتوم من فتاةٍ هي زوجتي التي رحت أدخلها بعنفٍ كل ليلة، كأنني أغتصبها، مدفوعاً باشتهائي أمها وبرغبتي في الانتقام منها ومن أمها ومن نفسي، فتكتم ألمها وصراخها. كنت على هذه الحال عندما قدّمت استقالتي من الجيش، تركتُ زوجتي في بيت أمها، وسافرتُ إلى السعودية لأعمل مع والدها هناك