حرف صنعت برج حمود

صفاء عيّاد
الثلاثاء   2018/05/01
معرض يسعى إلى رسم مساحة ثقافية تعيد التفكير في ماهية الحرف (ريشار سمور)

لم تكن عبثية تسمية شارع مرعش برج حمود، فوفقاً للترجمة الأرمنية مرعش يعني التطريز. واسم الشارع يختصر روايات أشهر الحرفيين في الساحة الأرمنية، وتوارث الحرفيين فيه نشاطهم عبر الأجيال. فمن هنا أختارت جمعية "نحن"، بالتعاون مع المبدع والحرفي الأرمني (بادكير)، إفتتاح معرض "حرف صنعت في برج حمود"، كمبادرة لرسم بصمة وعي معبّرة عن أصوات الحرفيين في برج حمود.

المعرض يسعى إلى رسم مساحة ثقافية رمزية تعيد التفكير في ماهية الحرف وقوامها الاجتماعي، التي استطاع بفضلها الوافدون الأرمن بناء موطن جديد لهم والاندماج في المجتمع اللبناني، محافظين على هويتهم الفريدة. ويطرح المعرض السؤال الأصعب عن مصير هذه الحرف المهددة بالانقراض، التي صُنعت في برج حمود وصنّعت تاريخها.

"المدن" جالت في أرجاء المعرض والتقت أبرز حرفيي الشارع الأرمني. أكبرهم هاغوب كشيشيان صانع أحذية، وأصغرهم الشاب العشريني غريغور اشخانيان نحات فولاذ.

بحرقة يروي كشيشيان عن أيام العز والبحبوحة التي كان ينعم بها: "شغلي بالأحذية لم يتوقف يوماً منذ كان عمري 12 عاماً، وإبان الحرب الأهلية كانت اليومية لا تقل عن ألف دولار. أما اليوم، فأحصد أسبوعياً قرابة 100 دولار بالكاد تؤمن لي ولزوجتي لقمة العيش". حال حرفة كشيشيان كحال الحرف الأخرى، اجتاحتها التكنولوجيا التي أخذت مكان الإنسان، وفق تعبيره. فهو ورث العمل عن جده وأبيه، لكنه لم يورثها لإبنائه "خوفاً من أن يأتي يوم يجلسون فيه عاطلين عن العمل بسبب هذه المهنة".

في حين أن النحات اشخانيان الذي ينحت الفولاذ، متأثراً بمهنة والده "الحدادة"، فكان يجمع بقايا الحديد في الورشة ليكون منها لوحات فنية. وبسبب شغفه بالفن بدأ اشخانيان استخدام الفولاذ ليصمم التماثيل ويعرضها في مخرطة والده. ورغم أعمال الفنان تُعد مقصداً لسياح أجانب ليمتعوا أنظارهم بحرفه الفنية، غير أن اشخانيان يرفض بيع أعماله أو التكلم عنها في العلن. ومعظم أعماله الفنية تعكس الجريمة الكبرى التي ارتكبت بحق الأرمن.

وقد تضمنت فعاليات المعرض فيلماً وثائقياً، يوثق حياة 11 حرفياً ما زالوا يناضلون من أجل إبقاء أشغالهم وتاريخهم حاضرين في الذاكرة الثقافية. ويستمر حتى نهاية شهر حزيران المقبل.

وفيما يلي أبرز الحرف التي اشتهرت بها برج حمود:

صنع المفاتيح
السنوات التي مضت زوّدت سركيس كازازيان بمعرفة عميقة بالمهنة، تكدست قفلاً بعد قفل ومفتاحاً بعد مفتاح، وصار سركيس يملك حلاً "لكل مشكلة في المفتاح"، على حد قوله. المحل الذي كان مزدهراً بالأعمال الميكانيكية للمفاتيح، اليوم ينحصر عمله بتصنيع المفاتيح حسب الطلب.

الطباعة
بلوغ نيكولاس صليبا الثمانية والسبعين لم يمنعه من الذهاب إلى مطبعته البدائية، فهو يلامس الورق من سن 14 عاماً حيث استهواه العمل في الطباعة وسرقه من مقاعد الدراسة. أما اليوم فيقتصر على تلبية طلبات طباعة لشركات كبيرة، كنقش بطاقات العمل وقطع أو طي أكياس التسوق الكرتونية، بعدما وجد نفسه غير قادر على مواكبة عصر الآلات الجديدة وافتقاره إلى المعرفة الرقمية.

صنع الجلديات
"تصليح جاكيتات جلد وشاموا، تجديد ألوان، جملة ومفرق". هذه العبارات مكتوبة على لوحة صفراء جنب واجهة المحل "أوكا". إنه مصنع صغير أصحابه ثلاثة: غارو، هاروت وليفون. يعملون تحت ضوء خافت والغبار تنتشر في كل مكان. البداية كانت من الكرنتينا حيث استقطب المشغل عمالاً لبنانيين ذوي خبرة، وفي غضون سنوات صاروا يصنّعون غلافات جلدية للكتب قبل أن يوسّعوا الإنتاج ليشمل الحقائب والساعات وأغطية الهاتف، حتى أصبحوا الوكيل لحقيبة سامسونايت في لبنان.

مدبغة الجلد
تُعرف في برج حمود بمدبغة تشاكاريان، الذي ورث المهنة والمصنع من جدّه قرب نهر بيروت، إذ تقوم صناعة الجلد على استهلاك كميات كبيرة من المياه. ففي الماضي شكل موقع المدبغة بالقرب من النهر أهمية، حيث كانت مياهه المصدر الأساسي للعمل. أما اليوم فتغيرت معالم برج حمود كثيراً والنهر قد شحّ، فتراجع عمل المدبغة وزادت المنافسة اقليمياً وعالمياً. لكن تشاكاريان يحاول التصدي للتحديات بالبحث عن طرق تؤمن له الاستمرارية، أبرزها استقطاب مصمصات لبنانيات شابات للتعامل معه.

نجارة
لم يحتج بيدروس كيشيسيان إلى أكثر من 3 أشهر لتعلم فنون النجارة على يد صديق والده. لا يترك متجره الذي يعرض به أعماله الحرفية، من الطاولات إلى الكراسي ومقابض الأبواب وصولاً إلى أدوات المطبخ الخشبية. ولم يستطع بيدروس المقاومة وتحديث آلاته لمنافسة مصانع الأخشاب المحلية والدولية، وبدأ يخسر الزبائن تدريجاً، وصار يمضي أوقات فراغه بصناعة أدوات المطبخ ليهديها لجيرانه، الذين يعدون له الأطباق الأرمنية.