من هم قوم أميش؟

محمد السعدي
الثلاثاء   2018/01/02
يُمعنون في الحذر والتوجس من المحيط الخارجي (Getty)

لا بد أن شاهدنا، في الأفلام أو المجلات، قوم أميش Amish، الذين يبدون كأنهم ممثلون في فيلم تاريخي يروي قصة قديمة. فهم يستخدمون الدواب للتنقل وحرث الأرض ويرفضون الحداثة، بما فيها الكهرباء والسيارات والهواتف، وحتى النقود الورقية. فلماذا يعتمدون ذلك النمط الحياتي؟ إنهم ربع مليون فحسب، يعيشون حصرياً في عدد من الولايات المتحدة الأميركية، ومنطقة أونتاريو الكندية، ويعدّون تلك الأشياء "بدعاً". إذ تقول قاعدتهم الدينية الأولى: "انبذ ما يُحبّه العالم الذي من حولك". تلك هي الفقرة الأولى في "دستورهم". هم يعيشون في بلد الاستهلاك المفرط، وينبذون الإفراط في الاستهلاك، مكتفين بكفاف يومهم.

ويكمن السبب في ظروف نشأتهم. فما تعرضوا له من اضطهاد في ربوعهم الأصلية ملخص لـ"التكفير" على الطريقة الأوروبية، وحتى "تكفير التكفير"، مثلما سنرى. فهم طائفة متزمتة، منبثقة عن البروتستانتية، تنتمي إلى نهج النظام الأقدم، الذي لا يعترف بأي أصول غير حذافير الإنجيل، وأصولهم من ألمانيا وتخومها في سويسرا ومقاطعة الألزاس، التي أصبحت لاحقاً إقليماً فرنسياً لكنها كانت آنذاك ضمن العالم الجرماني.

فالأميش عموماً، وخصوصاً أتباع "النظام الأقدم" منهم، يُمعنون في الحذر والتوجس من المحيط الخارجي، جراء ما تحمله ذاكرتهم الجماعية من قمع ديني في ربوعهم الأصلية في قلب أوروبا. وذلك ما يفسر هجرتهم إلى العالم الجديد، التي تزايدت وتيرتها بدءاً من العام 1712 إثر "فتوى" أطلقها ضدهم ملك فرنسا لويس الـ14. والأمان النسبي الذي لقوه في أميركا كان بفضل أراضيها الشاسعة، غير المأهولة بكثافة في تلك الحقبة. هكذا، وجدوا ملاذاً آمناً نسبياً، في منأى عن جيران مناوئين كثيرين، وعزلة "مثالية" من منظورهم.

تلك الأصول الألمانية تفسر أنهم لا يزالون يتحدثون بلغة مشتقة عن الألمانية، تدعى "پنسلڤانيا دتش"، الألمانية الپنسلڤانية. فما دخل پنسلڤانيا؟ ببساطة، لأن تلك الولاية الأميركية هي الأولى التي استقر فيها رواد مهاجريهم، إثر فرارهم من أوروبا في مطلع القرن الـ18. الآن، باتت پنسلڤانيا الثانية من حيث عدد الأميش بعد أوهايو وقبل إنديانا، فضلاً عن أونتاريو الكندية. لكنهم، بدءاً من سنوات 1990، انتشروا أيضاً في أركنساس وكولورادو ومين ومسيسيپي ونبراسكا وواشنطن وڤيرجينيا. وتمثل "پنسلڤانيا دتش" لغة التخاطب فيما بينهم، والتعامل والتواصل في الحياة اليومية. أما للمراسم والترنيمات الدينية، فيرددون لغة أخرى تدعى "هاي جيرمان"، أيضاً مشتقة عن الألمانية، إنما القديمة. وطبعاً، يجيدون الإنكليزية أيضاً، التي لا غنى عنها للتعامل مع السلطات والجوار.

وتتخذ اللغة عندهم أهمية كبرى لكونهم يعتمدون حصرياً "الإرث الشفوي"، المتناقل كلامياً أباً عن جد، من دون توثيق كتابي. فمثل ملل باطنية كثيرة في أنحاء العالم، يحرصون على عدم تدوين تعاليمهم، لئلا تقع بين أيد معادية. كما يعتمدون مبدأ "الترحيل"، بحيث لا يُلمّ أحدهم بالتعاليم سوى تدريجياً، مرحلة بمرحلة، بحسب سنه ودرجة تفانيه، فلا يصبح ضليعاً حقاً في شؤون الملة سوى في شيخوخته. وذلك احتراز إضافي، يهدف إلى تفادي تسرّب أسرار الملة. ذلك الإرث الديني غير المدون يحمل اسم "أوردننغ Ordnung". ما يعني بالألمانية "تعاليم" و"أوامر" و"ضوابط" و"تنظيم".

وينبغي القول إن لغة پنسلڤانيا دتش، وإن كانت الغالبة، فإنها غير حصرية. إذ انقسم الأميش عبر الزمن إلى ملل وعقائد ثانوية متشعبة، لها اجتهادات تشترك مع مريدي "النظام الأقدم" في جوانب، وتختلف في أمور أخرى. فمثلاً، في العام 1864، في ولاية إنديانا، انشق عن الملة أحد حكمائها المسنين، هنري إيغلي، فأسس فئة "أميش" تتحدث الإنكليزية في الحياة اليومية، بدلاً من "پنسلڤانيا دتش". كما لا تستنكف الطائفة الجديدة من إرسال أولادها إلى مدارس أميركية، نابذة بذلك تمسك التقليديين بتعليم أولادهم في البيت فحسب. بل وافقت طائفة إيغلي حتى على السماح لأفرادها بالعمل في المصانع والمؤسسات الأميركية.

لكن من المفارقات، رغم ذلك "الانفتاح"، تشددت طائفة إيغلي في أمور أخرى، فعمدت مثلاً إلى تحريم لبس الجواهر والحلي والتدخين والكحول. لاحقاً، "حللت" معظم تيارات الأميش جوانب كانت تحرمها بضراوة. منها، بات جائزاً في أكثر تجمعاتهم كركوب السيارة، شرط عدم قيادتها. و"حلل" بعضهم ركوب الدراجات الهوائية. وعند كثيرين، بات جائزاً أيضاً استخدام الهاتف، إنما للضرورة القصوى فقط. لكن، لليوم، يمتنعون عن استخدام الكهرباء، عدا عن استثناءات، وقطعاً لا يحرثون الأرض بالجرارات الزراعية، ولا يستخدمون أي ماكينات زراعية ميكانيكية، أو سماد كيميائي.

ذلك الانتقال إلى تداول الإنكليزية، من جانب تلك التيارات التجديدية أتاح الاختلاط مع طوائف أخرى تعود جذورها أيضاً إلى تيار "مينونايت" البروتستانتي، الذي أطلقه في العام 1536 الراهب مينو سيمونز في زيورخ. وسيمونز كان قساً كاثوليكياً، تخلى عن الكاثوليكية بسبب تأنيب ضميره تجاه ما عدّه قسوة مفرطة ضد البروتستانت من جانب الكاثوليك.

وإذ أعلن الكاثوليك "تكفير" البروتستانت، عمد المذهبان كلاهما إلى "تكفير" طائفة "أنابابتستز Anabaptists" (ملة "التعميد المتأخر" أو "تجديدية العماد") لكونها حرّمت تعميد الأطفال. فبالنسبة إلى مؤسسيها، الذين استندوا إلى إنجيل مرقص، انصبّ "الاجتهاد" على أن التعميد ينبغي أن يقام لشخص مدرك، يختاره طوعاً ويتعهد الالتزام بما ينطوي عليه من واجبات، وليس لطفل لا يفقه شيئاً. هكذا، فإن البروتستانت، الذي كفرَّهم الكاثوليك، عمدوا بدورهم إلى تكفير ملة أخرى.

ولدت طائفة الأميش من انشقاق نفر من ملة تجديدية العماد المذكورة. ففي العام 1693، عمد المطران جاكوب أمان إلى إعلان انفصاله عنها والتخلي عن مذهب "مينونايت"، المنبثق بدوره عن البروتستانتية. وفسر انشقاقه بالاختلاف في تفسير الإنجيل، داعياً أخوية "الإخوان" (مثلما كان يدعى رواد الأميش) إلى السير في خطاه. فتبعه عدد كبير منهم. وفي العام 1712، اشتد اضطهاد "الإخوان"، أجداد الأميش الحاليين، بعد إصدار الملك لويس الـ14 فرماناً يهدر دمهم. فلجأوا إلى التخفي. ثم اختفى أثرهم، بحيث ظُن أنهم انقرضوا. في الواقع، حزموا أمتعتهم خفية، ورتبوا هجرتهم سراً إلى أميركا... من دون تأشيرة. فانتشروا هناك تحت اسم "أميش".

ورغم بعض مظاهر الانفتاح، يظل التزمت والانعزال ونبذ الحداثة الصفات الغالبة لمعظم الأميش. ويظل الامتناع عن حلق لحية رجالهم قيداً ملتزمين به. ويظل حرث الأرض بالدواب والتنقل على عربات تجرها خيول تقليداً متأصلاً، والزراعة مصدر رزقهم الأول. ومن صفاتهم: احتشام المرأة في ملبسها، وتحريم الزنا قبل الزواج. وتظل حياتهم متسمة بالتكاتف والتكافل: يفلحون معاً ويستفيدون من المحصول اشتراكاً لا شراكة. يطبخون وجباتهم في بيت أحدهم ويتناولونها معاً حول موائد كبيرة. وأخيراً، بخلاف طائفة الـ"مورمون"، يحرّمون تعدد الزوجات، لكن مع الحرص على الاكثار من الإنجاب.