حراك الناس وتحركات السلطة

زياد توبة
الأربعاء   2015/10/14
لا يمكن حصر الآثار الإيجابية التي ما زالت تنتج عن الحراك الشعبي (المدن)

ليس تفصيلاً أن تشارك إمرأة متقدمة في السنّ في مظاهرة، وتحمل في يدها علم لبنان، تصد به إعتداءات القوى الأمنية على متظاهرين بعد مطاردتهم وإعتقالهم وضربهم أمام كاميرات الإعلام. ليس تفصيلاً أن تجد الناس بشرائحهم المتنوعة ما زالوا يخرجون إلى الشارع، ليخرجوا على السلطة السائدة ويعترضوا أمامها على فساد يومي يعتري العلاقة بين المؤسسات والمواطنين. أسبوع تلو الآخر، وللشهر الثالث على التوالي، ومفهوم الإعتراض يأخذ طريقه نحو التبلور. ليس تفصيلاً أن يصرّ الناس على المطالبة بتحسين شروط عيشهم على خلاف ما عهدناه في السنوات الأخيرة من ملل في مقاربة الشأن العام، في بلد رزح تحت وطأة إدارة حكم مكوّنة من قطبين أساسيّين هما 8 و14 آذار. لكن كيف يمكن أن تقدّر فعالية هذا الحراك وجدواه والآثار المترتبة عليه في ظل نقاش مستفيض حول طبيعته وأهدافه ومآلاته؟

إذا تجاوزنا كلاسيكيات التعريف بحركات الإعتراض الشعبية وتبيان آليات الضغط الجماهيرية في مواجهة السلطة، يكفي أن نلاحظ حجم المواجهة التي يخوضها الحراك في وجه السلطة المدججة بأدوات العنف المادي والرمزي، وبأدوات التبرير الإعلامية، لا بل المجهزّة بكافة المؤسسات اللازمة للضبط والإكراه، لندرك تمايز هذا الحراك بالذات. كيف ستتعامل سلطة تمتلك أدوات العنف والسلم معاً مع حراك مطلبي يتهمها بالفساد؟ تعمل سلطة كهذه على مواجهة الإعتراض المستجد لتحفظ ما ساد من علاقة زبائنية فرضتها في إطار إدارة الحكم منذ سنوات عديدة. هنا نعلم مدى حجم المأزق الذي فرضه الحراك على السلطة، لا بل نعلم مدى الشراسة التي يمكن للسلطة أن تتصرف بها إزاء الناس. بدأت الشراسة بشيطنة الحراك منذ انطلاقته، ووصلت إلى سوق المتظاهرين إلى المحاكم العسكرية. إستنفرت السلطة بمكوناتها الآذارية كل التهم الجاهزة لدرجة أنك تخالها تقف أمام المرآة وتستوحي من وجهها أوصافاً باتت معروفة، فتقول:"هذا حراك مشبوه، حراك أزعر، حراك المندسين، هذا حراك مرهون للسفارات الأجنبية، حراك مموّل من دولة عربية صغيرة... هذا حراك الفوضى.. الخ".

كيف واصل، في المقابل، الحراك الشعبي مواجهته لكل تلك الإفتراءات/ الإعتداءات من قبل السلطة وأبواقها وبعض مثقفيها؟ ما فعله الحراك هو أنه سحب من أيدي مكوّنات السلطة "كرة" الفساد التي كانوا يتراشقونها في ما بينهم. وبعد أن كنا نسمع بالفساد عندما يتوافق السارقان على السرقة ثم يختلفان على المحاصصة فيتهم واحدهم الآخر بالسرقة، أصبحنا، مع الحراك، قادرين على المبادرة في تفعيل المحاسبة الشعبية وإتهام السارقين معاً. لقد أحدث الحراك خرقاً على مستوى الاجتماع السياسي، واستطاع أن يرفع شعاراً واقعياً يعيد ترتيب زاوية النظر إلى الفساد. إستطاع أن ينزل إلى الشارع ليضع "قدسية" الفساد على المحك عبر شعار "كلكن يعني كلكن". هذا الشعار ليس دونكيشوتياً على غرار شعارات المكونات الآذارية الحاكمة. ليس شعاراً واهياً إيديولوجياً رنّاناً. إنه شعار مرفوع من الناس في وجه السلطة وليس شعاراً مرفوعاً من أحد مكونات السلطة في وجه مكوّن آخر، وهم جميعاً في إدارة "توافقية" للحكم. أفضلية الحراك تكمن في تموضعه خارج هذه الثنائية السقيمة، كما تكمن في تضرره منها. حراك مطلبي يعيد الإعتبار إلى مفهوم المواطنة.

كذلك، من بين ما فرضه الحراك من خروقات تلك التظاهرات النوعية التي حدثت وما زالت تخرج إلى شوارع القرى والمدن خارج العاصمة. هذا الخرق يتميز بطبيعة الإعتراض والناس المعترضة. فالناس في الأطراف يخضعون لحسابات إضافية تتعلق بخصائص اجتماعية وسياسية لها حسابات مختلفة عن تلك الموجودة في بيروت. هذه الجماعات الأهلية تُشكل حرجاً لقوى الأمر الواقع وسلطاتها، فلا يمكن إتهامها بالإرتهان للسفارات ولا يمكن تخوينها ولا شيطنتها، ليس خوفاً منها لا بل على قاعدة "حارتنا ضيقة ومنعرف بعض". التضرر هناك أوضح بكثير مما يجري في العاصمة. ويتجلى الوضوح أكثر عندما يخرج الناس على السلطة وممثليها المحليين، يخرجون على من تعمّد حرمانهم اجتماعياً وإقتصادياً وبيئياً تحت وطأة الوهم السياسي وماله.

لا يمكن حصر الآثار الإيجابية التي ما زالت تنتج عن الحراك الشعبي، كما لا يمكن حصر التحديات التي يفرضها الشارع على الحراك والضغوطات التي ترتبها السلطة للقضاء على الحراك. فكما ذكرنا، ليس تفصيلاً مشهد العلم اللبناني في يد المرأة التي ترد به الإعتداءات عن المتظاهرين، كما ليس تفصيلاً أن يواجه الحراك أياديَ تحمل قلماً جارحاً وعصا وسكيناً وهراواة. الحراك بحاجة للمواكبة بالتأييد والنقد الذي يميّز منطلقاته واستنتاجاته عن إعتداء السلطة. الحراك ما زال يواجه سلطة آثرت أن تنتج يومياً المئات من نموذج "طارق اليتيم" القاتل من أجل أفضلية المرور، فهذه السلطة بمكوناتها جميعاً تتكبد عناء العبور إلى الشراكة التوافقية لإدارة الحكم من دون أي إزعاج من زبائنها الكرام.