الأسد كـ"متعهّد خدمات" لطبقة تؤمن استمرارية النظام

وليد بركسية
السبت   2022/07/09
قبل خمسة أشهر فقط، كان صناعيو حلب ينفجرون غضباً في وجه مسؤولي النظام السوري خلال اجتماعات رسمية بسبب انعدام الكهرباء في البلاد التي تشهد تقنيناً يصل إلى نحو 20 ساعة يومياً.

ورغم أن تلك الشكاوى روتينية وتأتي من كافة السوريين طوال العقد الماضي، إلا أن استجابة النظام السريعة للصناعيين فقط، دون بقية السوريين، و"تكريمهم" بزيارة من الرئيس بشار الأسد شخصياً، الذي زار المحطة الحرارية في حلب قبل أن يزور الأسواق القديمة، تظهر كيف يقدم النظام خدماته لتلك الفئة الهامة بدلاً من خطاب الحماية التقليدي الذي يعطيه لفئات السوريين الأخرى.

والنظام السوري يدرك أنه بحاجة إلى فئة الصناعيين والتجار في حلب بوصفها العاصمة الاقتصادية للبلاد، لا العكس. ويسرع بالتالي لتقديم خدماته في بلد تتحكم به المليشيات على النطاق المحلي، ويظهر فيه النظام بشكله الحقيقي كقوة أمر واقع تمثل واجهة لتلك القوى الاقتصادية الجديدة المرتبطة به والتي دعمت وجوده ليس فقط خلال سنوات الثورة السورية بل قبلها بعقود أيضاً. وتصبح زيارة الأسد بالتالي تعزيزاً لذلك النموذج القديم الذي بني عليه النظام، بشكل يتخطى البعد الطائفي الضيق بوصفه نظاماً علوياً في بلد غالبيته من السنّة، بروابط عميقة مع مفاصل الطائفة السنّية من الأثرياء الذين لا يعملون على ضمان الاستقرار داخل تلك الطائفة، بل يرفدون الدولة بالعملة الصعبة ويحفزون الاقتصاد.

ولهذا توجه الأسد إلى حلب للمرة الأولى منذ بداية الثورة السورية والتي تجاهلها حتى بعد سيطرة جيشه عليها العام 2016 بعد معركة اعتبرت أنها الأهم طوال سنوات الحرب في البلاد، ما كان يستدعي الاحتفال بزيارة رسمية لها على الأقل. وتصبح الزيارة العائلية لها اليوم، مع العمل الذي تقوم به منظمات تابعة للسيدة الأولى أسماء الأسد في الأسواق القديمة تحديداً، تلميعاً لتلك الجهود التي لا تقود إلى نتائج على ارض الواقع، من أجل تقديم رسائل حول الخدمات التي يمكن للنظام توفيرها بوصفه من يتحكم بالبنى التحتية كي يستطيع التجار والصناعيون المباشرة بعملهم من جديد.

هذه الرسالة تبقى ودية في الشكل على الأقل لأن العلاقة بين الطرفين تكافلية بالطبع، وهي رد على غضب غير مسبوق قدمه الصناعيون والتجار في حلب منذ مطلع العام الجاري، ولم يلاحظ في دمشق بنفس المستوى على سبيل المثال. حيث انتشرت فيديوهات مستمرة لصناعيين وهم يشتمون الحكومة والدولة خلال اجتماعات رسمية. حينها كان النظام يطالب الصناعيين بمزيد من الأتاوات مقابل توفير الكهرباء لهم. كما هدد آخرون بالهجرة والتخلي عن النظام رغم "التضحيات" التي قدموها بالبقاء في البلاد خلال سنوات الحرب. يطمح أولئك بالطبع إلى لعب دور خلال فترة إعادة الإعمار المرتقبة. لا يشبه الأمر رهاناً على ربح اليانصيب بقدر ما هو استثمار في المستقبل. والحديث هنا عن صناعات قد تبدو بسبيطة بقدر ما هي مهمة، كالنسيج أو حتى تصنيع المسامير والبراغي.

وفي أيلول/سبتمبر 2021 كشف الصناعي السوري مجد ششمان أن نحو 47 ألف صناعي سوري غادروا مدينتي دمشق وحلب إلى خارج سوريا، لأسباب مرتبطة بالسياسة الاقتصادية الخاطئة في سوريا.

وكان رئيس اتحاد غرف الصناعة، فارس الشهابي، دائم الانتقاد لسياسات النظام خلال السنوات الأخيرة. وشعر الصناعيون في حلب بالخذلان مع عدم وجود من يمثلهم حتى ضمن مجلس الشعب بعد استبعاد الشهابي منه لصالح رجل الأعمال حسام قاطرجي، وغيره من قادة الميليشيات العسكرية، العام 2020.

وبزيارته لهم وحديثه عن كونهم "الأسياد" في مقابل المعارضين الذين وصفهم بالـ"عبيد"، وهو خطاب طبقي كلاسيكي يقدمه النظام باستمرار عند حديثه عن مدينة حلب تحديداً حتى ضمن الدراما السورية، يلعب الأسد على العواطف والنوستالجيا لا أكثر، حيث تتناقض سياسات النظام الفعلية مع الوعود الخلبية والآمال الزائفة. فبحسب عضو مجلس إدارة غرفة تجارة دمشق ياسر الكريّم تعتبر وزارة المالية هي المسؤولة عن هروب السوريين الأثرياء من البلاد نحو دول مجاورة فتحت الباب لهم كمصر والإمارات، بسبب الضرائب المتزايدة عليهم.

يعرض الأسد خدماته اليوم فيما تفرض مؤسساته سياسات تتعارض تماماً مع وعوده اليوم وأمس وغداً. وفي بحثه عن استعادة النموذج الذي بناه والده حافظ الأسد للدولة السورية، يظهر بوضوح كمية التفتت في نظامه الحالي بسبب ظهور طبقة جديدة من النافذين في البلاد تتعارض مصالحها مع الطبقة الاقتصادية القديمة من التجار والصناعيين ورجال الأعمال الذين كان النظام ينحاز إليهم على حساب السوريين العاديين إلى حدود العام 2019 تقريباً.

لكن تركيبة الاقتصاد السوري الحالية الذي باتت فيه تجارة المخدرات جزءاً من حيويته، ورجال الأعمال يحاولون الالتفاف على العقوبات ويؤمنون مداخيل بالعملة الصعبة تُرفد في دورة الدولة المالية، وينتشرون في دول الجوار ويحملون جنسيات غير سورية أيضاً، جعلتهم أقوى من النظام نفسه ربما.

ولعل الأسد اليوم يبحث عن ذلك التوازن ويعد به من تبقى من التجار والصناعيين التقليديين في حلب وممن ينوون العودة إليها أملاً باستثمارات رابحة حتماً في حال توفر الشروط السياسية اللائقة. المضحك هو تصويره حرفياً كزعيم "صدق وعده" في الإعلام الرسمي لأن حلب كانت تحت الرماد لسنوات ولم يكن ينقصها سوى حضوره كي تنهض أخيراً من كبوتها!