الدراما السورية النظيفة.. بلا سجائر ولا اتصالات أثناء القيادة

وليد بركسية
الأربعاء   2021/07/07
من اليوم فصاعداً لن تتضمن المسلسلات السورية، شخصيات مدخّنة أو لا تلتزم بالعادات المجتمعية المقبولة من وجهة نظر النظام السوري، بفضل تعميم صادر عن نقابة الفنانين السوريين يطالب صناع الدراما المحلية بـ"تعزيز دور الفن في ترسيخ الممارسات اليومية الملتزمة بقواعد الصحة العامة والذوق العام"، في آخر مشهد من مشاهد الوصاية الفكرية التي يمارسها النظام على مواطنيه ضمن مستويات عديدة تبدأ من التعبير السياسي ولا تنتهي بمحاولة تعميم "الفن النظيف".


وضم التعميم الذي وقّعه النقيب زهير رمضان، توجيهات رسمية بعدم التدخين من قبل الممثلين، إلا عند المتطلبات الدرامية الضاغطة جداً، لأن "تدخين الممثلين يسهم في ترويج عادة التدخين الضارة في المجتمع"، و"ربط حزام الأمان" و"عدم استعمال الهاتف أثناء القيادة".. وغيرها، في استكمال لما بدأه رمضان قبل أيام عندما تحدث في تصريحات عن إجراءات لمنع عرض المسلسلات التي "تحتوي على مشاهد جريئة وإيحاءات جنسية".

على أن تلك التوجيهات ككل لا تشكل جديداً بل هي عودة إلى جذور الدراما السورية التي كانت حتى سنوات مطلع الألفية تقريباً تمتنع بقرارات شفهية عن بث لقطات التدخين وشرب الكحول، وحتى عرض لقطات ينفرد فيها ممثل بممثلة من دون "مَحرَم" أي شخص ثالث معهما، بحسب تقارير ذات صلة، قبل أن تشهد الدراما المحلية قليلاً من الحريات ضمن الجانب الاجتماعي سمح بعرض مزيد من المشاهد الواقعية، من دون أن يحول ذلك المسلسلات السورية إلى منتجات فنية صافية، كونها عانت دائماً التوجيه الذي يحولها دائماً إلى خانة الدعاية، سياسياً واجتماعياً، ليس فقط من قبل السلطة السياسية بل من قبل صناع الدراما أنفسهم الذين لطالما نظروا إلى أعمالهم على أنها منتج تثقيفي يجب أن يحمل مضامين اجتماعية أو مضامين سياسية، ما أفقدها الخيال الممتع.



ويحيل ذلك إلى نقاش مواز حول معنى الفن أصلاً ومعناه الموازي في دول ظلامية تعيش واقعاً من الديكتاتورية السياسية مثل سوريا الأسد. ففي الحالة المثالية، يكون الفن هو الطريقة التي يختارها أفراد للتعبير عن أنفسهم إبداعياً بحرية مطلقة، وفي الحالة الظلامية/السورية يتحول ذلك إلى تقديم الأنماط الاجتماعية والأفكار السياسية ضمن قالب غير مباشر يكرر المواعظ السياسية والنشرات الثقافية والاستعلاء الفكري، بنعومة.

ومع التأكيد على أن ذلك المحدد لم يختلف قبل الثورة السورية أو بعدها، فإن النقابة اليوم بقرارتها تحاول العودة بالزمن إلى حقبة حافظ الأسد عندما كان النظام السوري يتحكم بضخ المعلومات بشكل كامل في المجتمع السوري عبر ممارسة الرقابة من ناحية أخلاقية أيضاً، بعدما لعبت ذلك الدور من زاوية سياسية تجلت بقرارات فصل الفنانين المعارضين ومنع رموز وإشارات وكلمات معينة من الظهور في الدراما السورية.

ولا تثير المواقف السياسية للنقابة غضباً، مثل ما تثيره محاولاتها على المستوى الاجتماعي/الأخلاقي، لأن الموالين للنظام تحديداً ينظرون إلى "الدولة السورية" على أنها حاضنة للعلمانية ومثال بعيد عن التطرف الديني الذي يمثله بنظرهم "المعارضون الإرهابيون"، قبل أن تظهر وزارة الأوقاف منذ العام 2018 كقوة متنامية في البلاد بموجب الصلاحيات التي منحها لها الرئيس بشار الأسد، لم يحجم بها فقط من منصب مفتي الجمهورية لصالح وزير الأوقاف، بل أعطى الوزارة الحق في التحكم بمؤسسات مالية وتربوية، وبالإنتاج الفني والثقافي وتأميم النشاط الديني.

وشهد العام 2018 تعيين عدد من خريجي كلية الشريعة ضمن كادر وزارة الإعلام السورية من أجل أداء وظائف رقابية، للمرة الأولى في تاريخ البلاد التي لطالما زعم النظام الأسدي الحاكم فيها منذ عقود، أنها دولة علمانية. وتكررت حوادث للرقابة التي مارستها وزارة الأوقاف مباشرة بالتنسيق مع وزارتي الداخلية والإعلام لمنع إعلانات "مسيئة" أو لوقف عرض تقارير تلفزيونية لأسباب أخلاقية مثل أن يكون لون شعر الضيف مائلاً للزرقة على سبيل المثال! وتتضافر تلك الجهود معاً من أجل تقديم النظام السوري لنفسه أمام البيئة المحافظة على أنه الحامي للقيم العائلية والدينية "السمحة" في المجتمع، والمدافع عن قيم العائلة أمام العادات الغربية التي تشجع على الحرية الفردية "الشريرة".

هذا الضخ يتكرر على مستويات أكبر من الدراما والفن نحو الخطاب السياسي الرسمي نفسه، فالأسد شخصياً بات يظهر ويلقي خطابات من المساجد ويلتقي دورياً مع رجال الدين، ليعلن جهاراً أن هوية الدولة السورية إسلامية وهو ليس جديداً، لأن سوريا الأسد وإن لم تكن دولة دينية بالكامل مثل السعودية أو إيران فإنها أيضاً لم تكن دولة علمانية مدنية، لأن العلمانية تقوم على ركيزتي فصل الدين عن الدولة وإقرار حرية الإعتقاد الديني، بينما ينص دستورها على أن القرآن هو مصدر للتشريع وأن رئيسها يجب أن يكون مسلماً، بجانب تخصيص قانون مخجل للأحوال الشخصية، يفرق بين المواطنين على أساس أديانهم.

والحال أن ذلك الموقف الأخلاقي قد يكون المحدد لمدى جودة العمل الفني لدى الجمهور والسلطة في آن معاً! ويعني ذلك أن هناك نظرة عامة للدراما السورية اليوم على أنها فن رديء، ليس من ناحية نقدية بل من ناحية مجتمعية، وتصبح الكلمات النابية والمشاهد "الحميمة" وعرض شخصيات لا تحظى بقبول عام مثل المثليين أو الملحدين من دون إلحاق وصمة العار بهم، أمثلة على الرداءة، رغم أن ذلك المقياس ليس كافياً لتحديد جودة أي عمل فني. ويتم النظر للدراما السورية في الماضي على أنها دراما ذهبية وفن أصيل يجب الرجوع إليه، على افتراض أنها كانت تنقل الواقع الاجتماعي للسوريين، رغم أن تلك الدراما لم تكن في يوم من الأيام مستقلة.

ويجب القول أن هذه السردية قديمة مع تحويل الدراما التلفزيونية في البلاد من منتج مسلٍ إلى منتج ثقافي شبه وحيد بفضل سياسات القمع والاعتقالات، ما أدى لتكريس صناع الدراما كمفكرين وصحافيين وموثقين وباحثين وناقلين لواقع الناس، رغم أنه لا يفترض بهم لعب تلك الأدوار أصلاً، بل فقط تقديم قصص مقنعة، حول حياة الناس أو حياة الفضائيين، لا يهم. وهو بالتحديد ما تم تحييده بشكل عام طوال السنين، لأن القصة لدى صنّاع الدراما والمشرفين عليها، هي الوسيلة فقط وليست الهدف من كل العمل الفني.

وبالطبع سيخرج الفنانون السوريون لمهاجمة نقيبهم بسبب القرارات الجائرة بحق "حرية التعبير" غير الموجودة أصلاً في البلاد، وستتكرر عبارات مثل أن البلاد تحولت إلى قندهار جديدة، لكن المثير حقاً أن الفنانين السوريين في العموم قد لا يختلفون كثيراً عن رمضان، سوى في الأسلوب المخابراتي الذي يتميز به الأخير في إدارته للنقابة، مع تشابه كبير في الجوهر.

العام الماضي على سبيل المثال قدم كتّاب الدراما السوريون ميثاقاً لا يختلف كثيراً عن توجيهات رمضان الأخلاقية، تعهدوا فيه بمحاولة إيصال الدراما المحلية إلى مرحلة التعافي من الانحدار، ووضعوا فيه الدراما المحلية في منزلة أعلى من "التوافه" اللبنانية والمصرية والعربية والتركية والأميركية وغيرها، باعتبارها لم تكن مجرد عمل ربحي يتوسل التواجد على منصات العرض التلفزيونية فحسب، بل كانت وستبقى جزءاً من هوية ثقافية وفكرية من وجهة نظر صناع المحتوى الدرامي على أقل تقدير!

وهنا، تنكشف فوقية الدراما السورية ككل في نظرتها للجمهور الذي يوصف ضمناً بأنه جاهل  ومتسرع ويحتاج للوعي. هذا الوعي يجب أن ينقل له عبر "الإعلام الوطني" قبل أن يحصل عليه من "الإعلام المغرض" والدراما المحلية بالطبع هي واحدة من أدوات ذلك الإعلام للتأثير الناعم، لا أكثر ولا أقل. ويلاحظ ذلك في نقاشات مجلس الشعب نفسه حول الدراما السورية.

وبالطبع فإن تهجين المواطنين وتلقينهم طريقة التفكير الصحيح للوصول إلى "اليوتوبيا الأسدية" التي يبقى فيها الأسد في الحكم إلى الأبد ممتصاً دماء السوريين، من دون أن يشتكي أحد تبدأ من المدرسة ومن التلفزيون للتأثير على الأفراد الأصغر سناً بالتحديد، من أجل الحفاظ على "مجتمع متجانس" حاول النظام خلقه بقتل نحو نصف مليون سوري وتشريد نصف سكان البلاد بين نزوح داخلي ولجوء خارجي، يشكلون في مجموعهم التفاحات الفاسدة التي تمردت.

ليس من المستغرب بالتالي، أن تتضمن لائحة التعميمات الفنية التالية أن تفتتح المسلسلات بالنشيد الوطني وتختم بترديد الشعار وتحية العلم. لحظة فقط.. ذلك يحصل بالفعل!