السبت 2021/07/03

آخر تحديث: 15:36 (بيروت)

"لأنها بلادي": عندما يعتقد النظام أنه يصنع دعاية متقنة

السبت 2021/07/03
"لأنها بلادي": عندما يعتقد النظام أنه يصنع دعاية متقنة
نادين خوري خلال تصوير مسلسل لأنها بلادي (تويتر)
increase حجم الخط decrease
لا يمكن التعاطي مع مسلسل "لأنها بلادي" نقدياً، باعتباره منتجَاً درامياً أو نوعاً من أنواع الفن، بل هو منتج رديء يمزج بين التفاهة البصرية والبروباغندا المباشرة والوعظ الأخلاقي، فقط. ومع إسقاط جنس الفن عنه تسقط لاحقة النقد بدورها.

وإن استطاع المشاهد المسكين تحمل الآلام الجسدية الفعلية التي يقدر العمل على التسبب بها، من الصداع إلى الغثيان مروراً بضيق التنفس، فإنه سيتابع ثلاثيات تستعرض قصصاً من المفترض أنها "حقيقية" لجنود النظام السوري خلال معارك مفصلية خلال السنوات العشر الماضية بعد الثورة في البلاد. وإن كان المقصود بذلك تلميع صورة أولئك الجنود الذين شاركوا في انتهاكات لحقوق الإنسان عموماً، فإن الغاية من العمل ككل تبدو الدفاع عن قادة أولئك الجنود بعرض قصصهم، أي تلميع صورة "القيادة الحكيمة" نفسها أمام البيئة المحلية التي لطالما غضبت من طريقة تعامل الدولة السورية مع الجنود، أحياء كانوا أم أمواتاً.

ويركز العمل إلى حد كبير على علاقة الجنود بالضباط، ويظهر الضباط دائماً بصورة أبوية فهم عاطفيون وحنونون وتكاد الدموع تنذرف من عيونهم عند حديثهم مع الطيارين أو الجنود أثناء المعارك وهم يصيحون عليهم بأن الموت ممنوع وأن موتهم في المعركة هو مخالفة لأوامر عسكرية أثناء الحرب. والأكثر إثارة للضحك هو تصوير أولئك الضباط كمثقفين يقرأون الشعر ويهدون بعضهم دواوين للمتنبي مثلاً فيما يتحدثون باللغة الفصحى من حين إلى آخر لوصف جمال سوريا وحضارتها "التي يحاول الإرهاب تدميرها" بالطبع.

وبالطبع فإن واقع جنود النظام مختلف عن ذلك، ففي السنوات الأخيرة انتشرت صور وقصص للطعام الذي يحصل عليه الجنود ورواتبهم وقصص استغلالهم من قبل الضباط والمسؤولين وصولاً إلى الاستخفاف بأولئك الجنود وعائلاتهم، مثلما قام النظام السوري سابقاً بتوزيع ساعات حائط ومَواشٍ ومواد غذائية معلبة وصناديق من البرتقال، كتعويضات لأسر القتلى في جيشه، من دون نسيان مدة الخدمة العسكرية الطويلة والتي باتت تبدأ ولا تنتهي.

وفيما يتم الحديث بشكل محق جيش النظام كميليشيا أسدية تقتل السوريين ويتباهى بعض أفراده بجرائم الحرب المختلفة، فإن ذلك لا ينفي وجود عدد كبير من الشباب السوريين الذين يجبرون على الالتحاق بالخدمة الإلزامية، سواء كانوا موالين للنظام أم لا، ولا يمكن على سبيل المثال، نسيان الصور الصادمة التي انتشرت العام 2018 لاعتقال شباب سوريين واقتيادهم للخدمة العسكرية مكبلين بالسلاسل، لكن سياق الحديث عن تلك الخدمة يختفي تماماً في المسلسل مع التركيز على عبارات مثل الفخر والعزة والشرف وما شابه، بموازة تصوير الجيش ككل على أنه قوة من قوى الخير التي تقاتل الشر على الكوكب.

ومن اللافت أن الشر المختار في العمل هو "الجماعات الإرهابية المسلحة" التي يتم تصويرها كتابعة لجهات أجنبية. وفيما كانت تلك الجهات تتنوع في خطاب النظام والدراما الخاصة به في السنوات الماضية، بحسب مدى التقارب والتباعد سياسياً مع دول الجوار، فإنها في المسلسل تقتصر إلى حد كبير على إسرائيل، التي في الواقع بقيت على الحياد في الحرب السورية. ولم يقتصر وجود ضباط إسرائيليين يديرون قوات المعارضة المسلحة على الحلقات التي ركزت على الجنوب السوري فقط بل ظهرت شخصيات إسرائيلية في كافة المناطق التي تحدث عنها المسلسل (القلمون، البادية، درعا، السويداء..).

وهنا، يتم تصوير الجهاديين التابعين لتنظيمات متشددة كـ"النصرة" أو "داعش" على أنهم تابعون لإسرائيل، فيما تم تفسير اتفاقات المصالحة التي جرت مع بعض الفصائل المعارضة في درعا العام 2018 على أنها نتيجة لرفض تلك الفصائل العمل مع "العدو الصهيوني". وعلى الجانب الآخر، لا يتم ذكر أي قوى أجنبية أخرى تقاتل إلى جانب النظام، من الروس إلى الخبراء الإيرانيين والميليشيات التي دعمتها طهران ولا حتى حزب الله، وهي قوات دعمت النظام على الأرض وأسهمت في حمايته من الانهيار أكثر من مرة.

ويحاول العمل محاكاة وجهة النظر الرسمية للثورة في البلاد، بأنها فعل إرهابي نتج عن جماعات متطرفة دينياً مرتبطة بدول خارجية من أجل استهداف الحضارة السورية والدولة  التي تعايش فيها المسيحيون والمسلمون بطوباوية لم تتواجد عبر التاريخ إلا فوق الأرض السورية! وتنسحب الرداءة من لقطات الكنيسة التي تعانق المسجد إلى أداء الممثلين الذين يميلون للجمود أو المبالغة، وربما يعود ذلك لعدم وجود شيء في النص لتمثيله أصلاً.

أما الأسلوب الذي يعتمده المسلسل فهو بعيد عن الفانتازيا التاريخية التي اشتهر بها مخرجه نجدة أنزور في التسعينيات ومختلفة عما أسماه "الواقعة السحرية" في أعماله طوال السنوات العشر الماضية، بل يعتمد على شيء يشبه الديكودراما. فالمسلسل عبارة عن دراما جانبية تصور ما تكتبه شخصية نسائية (نادين خوري) تحاول "توثيق الحرب على سوريا"، بلغة ثقيلة ونبرة مستفزة مأخوذة من نشرات الأخبار الرسمية.

والحال أن الزخم الذي وفره النظام للمسلسل من مؤتمرات صحافية ورعاية إعلامية وكثافة في النشر عبر مواقع التواصل بما في ذلك صفحات مسؤولين إعلاميين مثل مستشار وزير الإعلام مضر إبراهيم، أعطى انطباعاً للحظة بأن المسلسل سيشكل دعاية متقنة يعمل النظام على تطويرها منذ سنوات عندما رد وزير الإعلام عماد سارة بشكل مبهر فشل الإعلام السوري إلى أنه "لا يستطيع صناعة التضليل الإعلامي باحترافية كما يفعل إعلام القوى الرجعية العربية أو الإعلام الغربي وتحديداً الأميركي".

لكن ما قدمه أنزور بوصفه مخرج النظام الأول، في المسلسل الذي كتبه محمود عبد الكريم وأشرفت عليه وزارتا الإعلام والدفاع عبر لجنة قراءة مؤلفة من الكاتب سعد القاسم والإعلامية نهلة السوسو والعميد غالب جازية، يبدو محرجاً لنظام الأسد نفسه، عطفاً على الخواء الذي تحويه الحلقات التي لا تستطيع أن تقنع ربما أكثر المؤيدين للنظام بمحتواها، ليس بسبب كمية الكذب وتضليل الوقائع فيها، بل من ناحية تقديم ذلك الكذب والأسلوب الخشبي الذي يتعامل مع الجمهور الموالي قبل المحايد أو المعارض، على أنه أسفنجة تمتص كل ما يقدم لها من دون مناقشة ومن دون أن تمتلك الإرادة الحرة لمناقشة سياق المعلومات المقدم لها تمهيداً لقبوله أو رفضه.

وبالطبع فإن تلك هي الطريقة التي ينظر بها النظام تاريخياً للسوريين. وكان ذلك ربما طريقة فعالة لتوجيه السوريين عبر الدعاية الرديئة وتحديداً عبر المسلسلات الدرامية، في الثمانينيات والتسعينيات عندما كان النظام يتحكم بضخ المعلومات ويفرض تعتيماً إخبارياً بموازاة سياسة كم الأفواه والتضييق على الحريات، لكن ذلك تغير تدريجياً مع انفتاح السوريين إعلامياً على العالم عبر القنوات الفضائية ثم الإنترنت.

والنظام الذي أصبح نسخة هزلية عن نفسه، يحاول في السنوات الماضية فرض ما كان عليه في سنوات قوته عندما كان حافظ الأسد حياً ويدير الدولة السورية بيد من حديد، لكن تلك المحاولات تفشل وتثير السخرية لعدم عصريتها، تماماً  كفشل مسلسل أنزور على جميع المستويات، الفنية والأخلاقية. والأكثر سخرية هو إطلاق توصيف مثل "الملحمة الوطنية" عليه وكأن الجمهور سيتابع شيئاً في مستوى ملاحم تلفزيونية معاصرة مثل "صراع العروش" أو "ذا 100".

وبالطبع فإن إعلاميي النظام هنا والمشرفين على الدراما نفسها، يؤمنون فعلاً بأنهم يقدمون منتجاً إعلامياً جيداً لمجرد أنه "ناقل للخطاب الوطني والسياسي السوري بكل فخر"، ويفسر ذلك ردود الفعل المتشنجة من ذلك الإعلام عندما يتم اتهامه من قبل الموالين بأنه مقصر وغير جذاب، ويبلغ ذلك مستوى أكبر عند النظر لوجهة نظر سارة هنا: "إذا كانت الخشبية ثمناً للكرامة والسيادة، فليستمروا في نعته".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها