الإثنين 2024/02/19

آخر تحديث: 00:00 (بيروت)

لماذا تُحجَب صور النّسوة وأسماؤهن.. ضحايا الحروب؟

الإثنين 2024/02/19
لماذا تُحجَب صور النّسوة وأسماؤهن.. ضحايا الحروب؟
تصير النّسوة "الشهيدات" في الحروب ظلالًا داكنة (Getty)
increase حجم الخط decrease
يعتقد غالبية المؤرخين، اليوم، أن أقدم خطبة جنازة رسميّة (أو Funeral oration)، ألقيت عام 440 قبل الميلاد، وتحديدًا في أواخر السنة الأولى من الحرب البيلوبونيسيّة، واُشتهرت بخطبة "بريكليس" الجنائزيّة، لتكريم الجنود الأثينيين الذين لقوا حتفهم في تلك الحرب.

مشيدًا بشجاعة الجنود ومناقبهم، ابتدع لحظتها "بريكليس" تقليدًا عالميًّا، سوف تتبعه البشريّة بمجملها لاحقًا، كطقسٍ تأبينيّ، حوّل الموت من حدثٍ عرضيّ، وفاجعةٍ شخصيّة، صامتة، مجرّدة، إلى مشهديةٍ مفعمةٍ باحتفاليّة مضمرة، أعطت الميت، اسمًا، وصورة، وسيرة، وحياة سابقة بكل ما للحياة من معنى، عقلًا يختمر بالأفكار وشخصيّةً لها ما لها من مثالبٍ ومناقب، وجسدًا عاش مخاضات الألم والنشوة، لا جثة متحللة تدفن على عجالة. وأعطت محبيه، عزاءً وذكرى. وبالمقابل، منحت الموت، طابعًا حميميًا وصاخبًا وأبهة، على خلاف حقيقته الفجّة.

أرشفة المجزرة
اليوم، لا يوجد سبب فعليّ للاعتقاد أن التقليد العالميّ هذا، المتسم بطابعٍ إنسانيّ بحت، قد يصبح أقلّ إنسانيّة، حتّى في أزمنة الحروب، حين تسفك الدماء مجانًا. دوماً، وجد الناس متسعًا لأرشفة الوجوه والسير والأسماء والأعمار والأجناس والمهن للضحايا، غالبًا لاستذكارهم، وحتى الاستفادة من هذا الأرشيف، للتشفي من قتلتهم وتحقيق عدالتهم. بل اتجه آخرون وفي مناطقٍ حضاريّة متفرقة من العالم، لاستبدال الأرقام التّي وضعت على قبور الجثث التّي دفنت قبل عقودٍ، بأسماء. وبالتّالي، إعطاء الأرواح المنسيّة اسمًا وهويّة.

وبعد قرونٍ مديدة، اكتسب هذا التقليد صبغات ثقافيّة شتّى، فيما ساهمت الثورة التّكنولوجيّة في جعله بمتناول الأيدي، ماديّاً وشبه أزليّ، استغلته آلافٌ مؤلفة من النشطاء والصحافيين والمتطوعين، وتحديدًا في البلدان المسحوقة في معجن الحروب، في محاولتها لجمع أعداد الضحايا، ولوضع صورةً على الجثة المشوهة والمنتفخة، ورقمًا واسمًا وسيرة، صانعةً إرثًا لهؤلاء الضحايا لا تطوى ذكراهم، بدلًا من الوقوع في فخّ تاريخ القبور المرقمة، المنسيّة، مجدّدًا. 

وها أنت اليوم، تجلس في هذه اللحظة في بيتك الأمين والبعيد عن المجزرة، تحدق بصور الأطفال من الضحايا، تغلي كالمرجل غضبًا وسخطًا: لماذا يموت الأبرياء، لماذا يقتل الأطفال وهم في أحضان أمهاتهم؟ ما الذي يستأهل هذا الموت المجانيّ، الماحق، المؤلم؟ تختمر في رأسك الأسئلة المكرّرة حدّ الابتذال، تبحث عن أعمار الضحايا وأسمائهم وصورهم، وبنقرة زرّ ينبثق أمامك الأرشيف الموثق، مقتل عائلة بأكملها. صور الأطفال الصارخة في وجهك، أحلامهم المتبددة، سيرهم وأقوالهم، والمتسبب في قتلهم.

الضحايا من النسوة
لكن وفي زاوية المنشور، تشاهد ظلًا رماديًّا داكناً، مذيلٌ بالاسم الأول لوالدتهم "روعة"، لا صورة لها، لا عمر، لا اسم كاملًا، ولا سيرة، شبح إنسان قتل على حين غرّة، وجودٌ إنسانيّ اضمحل، سُمي بروعة وتعود أصوله إلى سوريا. امرأةٌ قتلتها آلات الإبادة الإسرائيليّة في بلدة الصوانة الجنوبيّة، ممعنةً بالطبش والقتل الذي لا تضاهيه أي مقتلةٍ سجلها التّاريخ الحديث، وفوق ذلك حُجبت صورتها، تتساءل: لماذا تُحجب صور الضحيّة هذه دون غيرها؟ أليس لهذه الجثة وجه واسم وسيرة؟

ثمّ تستدرك هذا النمط المُكرّر منذ زمنٍ طويل، في بطاقات التعازيّ التّي تختفي فيها الأسماء المؤنثة، مرورًا بمراسم التّأبين التّي يقتصر فيها دور النسوة على النحيب وإعداد الولائم، وصولًا إلى بداية المذبحة، في تشرين الأوّل الفائت (وما سبقها)، النمط الفجّ والظاهر إلى العيان، وذلك العمل الإيديولوجيّ والدينيّ والاجتماعيّ الدؤوب، المواكب للمحنة الدمويّة الحاليّة في غزّة والجنوب اللّبنانيّ وسوريا، لطمس أي معالم لنسوة قتلن كما سائر الضحايا، لخنق جثثهن، وإخفاء وجوههن عن الكاميرات وأعين الرجال، وطبعًا تغيير الطابع والعلاقة الذي اتخذه الموت (ظلمًا على وجه التّحديد)، من حدثٍ بالغ المشهديّة، لأقلّ إنسانيّة، بالغ التزمت، باسم التدين.

وهذا ما يتجلى في التعامل مع مقتل النساء في غزّة والجنوب اللّبنانيّ، وتحوله من جريمة مستنكرة وشنيعة، لحدثٍ منفصل عن المشهد السّياسيّ والعسكريّ، وكأنّه حادثةٌ فرديّة، تعالج بتكتم بالغ، وإحجامٍ عن جعل المصاب، الذي لحق بالمرأة، عموميًّا وحسيًّا، يصاحبه "غيرة شعبيّة" على النساء اللواتي لم يُقتلن وهن سافرات (كاشفات الرأس أو الجسد). ومنصات التواصل الاجتماعيّ اليوم، تفيض بالصور العائليّة بالأكفان، التّي توضع كدليلٍ حسيّ على المجازر، والتّي تُظهر فيها الوجوه لكامل الضحايا من الرجال والأطفال، بينما تُكفن وجوه النسوة عن عمد.

الحجب المستميت لصور النسوة
مزيجٌ من الميسوجينيّة -رهاب النساء- والدونيّة، والاحتكار للسّلطة على الجسد في الحياة والممات، عشرات التّسميات قد تضعها في سياق تفسير هذا النمط الاجتماعيّ، لتشييء المرأة حتّى لحظة دفنها، باعتبارها "حرم" أحدهم، رمزًا جنسيًّا ولو كان جثة، ترتبط بذكر واحد (أو مجموعة ذكور محددة)، مصادراً اسمها، وشعرها، ووجهها وطموحاتها، وصورتها. عشرات المسوغات قد تُمدّ كشماعةٍ لهذا الحجب المستميت لشكل المرأة واسمها وسيرتها الشخصيّة ما عدا وظائفها الاجتماعيّة النمطيّة (الحجب المستميت، الذي يصل في بعض الأحيان، لوضع صورة النسوة غير المحجبات، بحجاب، سواءً ملتقطة في مناسبة دينيّة أو معدلّة بالفوتوشوب).  والحؤول دون توثيق المظلوميّة التّي نزلت بها، الجريمة التّي اقترفها العدو، فقط في سبيل "الحرمة الدينيّة" أو الاجتماعيّة، وأحيانًا لدواعٍ عنصريّة بحت، كما يحصل الآن مع الضحايا من التابعية السّوريّة.

وللعلم، ليست جديدة سيرة حجب هويات الضحايا من النّسوة، بل هي في الواقع سيرة مُعادة، تنتشر حاليًّا في مناطق متفرقة من العالم العربيّ، كالسّودان، وتحديدًا بُعيد الحرب التّي اندلعت السنة الماضية بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في العاصمة الخرطوم، حيث سعت النسوة للحصول على وسائل منع الحمل والإجهاض، بعد توثيق مئات حالة الاغتصاب بنيّة الانتقام والتشفي. فيما تقصدت أعداد كبيرة من ذوي ضحايا الاعتداءات الجنسيّة حجب أسماء وصور بناتهن الحوامل نتيجة الاغتصاب (بسبب تجريم السلطة السودانيّة الإجهاض)، خوفًا من العار الاجتماعيّ، ما حال دون عمليّة توثيق حقيقية.

ناهيك باليمن، حيث وقعت العشرات من المحتجزات في سجون الحوثيين، ضحيّة الاغتصاب والتّعذيب، وتمّ حجب عدد كبير من الهويات والأسماء عن أي عملية توثيق بضغط من السّلطات الحوثيّة.

أما الواقعة الحزينة، أنّه وفي هذه البقعة الجغرافيّة المنكوبة، الغارقة بالدماء، والتّي تُنسى فيها الأسماء فور دخولها عداد الإحصاء، والتّي تُنتهك فيها حقوق النّسوة وحريات أجسادهن وعقولهن، في الظروف الطبيعيّة، بل وتُسفك دمائهن من دون الحاجة إلى آلة قتلٍ إسرائيليّة، من الوارد جدًا، أن تصير النّسوة "الشهيدات" في الحروب، ظلالًا داكنة، باسماءٍ ناقصة، كعارٍ وخزيّ، لا يشبه مواكب التشييع المفعمة بالتّبجيل للضحايا والمقاتلين من الرجال.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها