الأحد 2023/09/10

آخر تحديث: 11:06 (بيروت)

العلم مقابل العلم الزائف: السجال حول المثلية نموذجاً

الأحد 2023/09/10
العلم مقابل العلم الزائف: السجال حول المثلية نموذجاً
لا ارتباط بين "المثلية" والاضطراب العقلي أو السلوكي (Getty)
increase حجم الخط decrease
كم من مرة استقليت فيها سيارة أجرة، ثم بدأ السائق في الحديث عن الطب أو التقنيات الحربية. وقبل الشروع بالتدخل وتصحيح معلومات السائق تدرك أنه من الأفضل الابتسام والتظاهر بالموافقة، فالموضوع ليس ذا أهمية ولا يستدعي هدر طاقتك أو التصرف بقلة لباقة مع الغرباء.

مع التقدم العلمي والتكنولوجي، قد نعتقد أن الناس أصبحوا أكثر ميلاً للتفكير بطريقة علمية، أو حتى الاهتمام بالأبحاث ومحاولة تقييمها، ولكن هذا ليس صحيحاً، لا بل نحن نسير في الاتجاه المعاكس.

تكافئ اليوم وسائل التواصل الاجتماعي المحتوى الذي ينتشر على نطاق واسع، سواء كان صحيحاً أم غير صحيح. وهذا يشجّع على نشر معلومات خاطئة قد تبدو حقائق علمية ولكنها ليست كذلك.

لكن لماذا يفضل العامة سماع قصص "العلم الزائف" أكثر من العلم نفسه؟ وكيف نرسم خطاً فاصلاً للتمييز بين ما هو علم وما هو علم زائف.

جهاز كشف الوهم العلمي
كلمة Pseudoscience نفسها تتألف من جزئين، علم و"Pseudo" التي تعني باليونانية "مزيف". بعض العلماء يعترضون أساساً على إعطاء إسم ومفهوم لمجرد ادعاء العلم أو لنشر معلومات خاطئة، لكن ليس عالم الفلك كارل ساغان Carl Sagan. ففي كتابه The Demon-Haunted World الصادر سنة 1995، أعطى ساغان العالم "جهاز كشف الوهم العلمي" (baloney detection kit) وكرّس الحد الفاصل بين العلم والعلم الزائف بتسع نقاط (أدوات):
1- يجب التحقق من صحة ما هو معروض كحقائق من جهات مستقلة قدر الإمكان.
2- تشجيع النقاش من عدة وجهات نظر حول الأدلة المقدمة.
3- إدراك أن الحجج المقدمة من السلطات (الدينية والحكومية) ليست دائماً موثوقة.
4- الأخذ بالاعتبار العديد من الفرضيات، والتفكير بالحجة من جميع الزوايا التي تؤدي إلى تفسيرها أو دحضها.
5- المحاولة قدر الإمكان عدم التمسك بفرضية خاصة والابتعاد عن التحيز، مقارنة فرضيتك بفرضيات أخرى يتيح لك إمكانية التخلي عن انحيازك.
6- قم بالقياس الكمي، إعطاء أمثلة بالأرقام حول فكرة معينة يعطينا فرصة للتحقق من صحتها بواسطة بيانات حقيقية.
7- إذا كان هناك سلسلة حجج مترابطة فمن الضروري تبيان صحتها كلها، فإذا تم إثبات عدم صحة إحدى حلقات السلسلة فلا داعي من الاستمرار والمكابرة عبر التمسك بالحلقات الباقية بحجة أنها صحيحة.
8- اعتماد مبدأ Occam's razor باختيار الفرضية الأبسط والتي تتطلب أقل عدد من التكهنات.
9- هل فرضيتك قابلة للدحض؟ فرضية غير قابلة للتحقق والدحض لا تستحق النظر اليها.

أدوات ساغان هذه عززت التفكير النقدي ومبدأ "التشكك" كمنطلق أساسي لأي نقاش علمي.

كيف نفرق بين العلم والعلم الزائف
العلم هو إنتاج مفاهيم موثوقة عن العالم الطبيعي والكون. وأهم ما يميز العلم إنه قابل للدحض والمساءلة. 

إليكم أبرز نقاط المقارنة للتمييز بين ما هو علم وما هو علم زائف:
الاعتماد على الأدلة: يستند العلم إلى الأدلة والبراهين، والتي يمكن التحقق منها بشكل مستقل من قبل الآخرين. أما العلم الزائف فيعتمد على الأدلة القصصية أو الشهادات الشخصية المدفوعة بأهداف ثقافية أو اقتصادية.
الانفتاح على النقد وتقبل الأدلة الجديدة: العلماء منفتحون على النقد وتقبل الأدلة الجديدة، والتي قد تؤدي إلى تغيير نظرياتهم. أما العلم الزائف فهو مقاوم للاختبار والنقد والأدلة الجديدة.
قابلية التكرار: يمكن تكرار النتائج العلمية من قبل باحثين آخرين، أما نتائج العلم الزائف فهي غير قابلة للتكرار.
قابلية الاختبار: يمكن اختبار الفرضيات العلمية من خلال التجارب، أما فرضيات العلم الزائف فهي عصية على الفحص وتقوم بانتقاء البيانات التي تناسب النتائج المفترضة بشكل مسبق.
القدرة على التنبؤ: يسمح العلم للعلماء بالتنبؤ بنتائج التجارب المستقبلية، أما العلم الزائف فهو يتغذى على المجهول.
العلم نظام معرفي مؤقت: بمعنى أنه يتطور ويتبدل بإستمرار مع ظهور أدلة جديدة. أما العلم الزائف فهو يدعي الحقيقة المطلقة.
الشفافية: يشارك العلماء منهجية أبحاثهم ونتائجها مع الجمهور، مما يسمح بالتحقق منها. أما العلم الزائف فهو غالباً ما يكون سرياً ومخفياً عن الجمهور.
التواضع: يتميز العلماء بالتواضع، ويدركون حدود معرفتهم. أما العلم الزائف فهو متعجرف، ويدعي معرفة كل شيء.
روح العلم: يمتلك العلم الأدوات العلمية والمفاهيم وكذلك عمق الثقافة المعرفية. أما العلم الزائف فهو يستخدم الأدوات العلمية فقط، غالباً للتمويه أو للتبرير.

أمثلة عن العلم الزائف
ينضوي تحت مظلة العلم الزائف فرضيات عديدة، أبرزها يتعلق بادعاء وجود تكنولوجيا من صناعة الكائنات الفضائية. وكذلك فرضية أننا نعيش داخل مصفوفة (Matrix)، رغم استحالة إنتاج محاكاة للعالم الطبيعي والقوانين الفيزيائية بواسطة برنامج رقمي.

التنجيم والأبراج خصوصاً انها تطلق على نفسها لقب "علم الابراج" ولم تقدم يوماً دليلاً واحداً على تأثير مواقع النجوم والكواكب على سلوك الإنسان ومستقبله، ولم يشاركنا أي من المنجمين منهجيات بحثه ولم يعرض للجمهور كيف جاء بنتائجه.

العلاجات البديلة بالأعشاب والعلاجات المماثلة التي تذوب بالماء كميات ضئيلة جداً من مواد فعالة مسببة للمرض، كأن تعالج الصداع النصفي بمحلول خفيف جداً من الكافيين وتدعي أنه بديل للطب الحديث.

هواية مطاردة الاشباح بواسطة أجهزة متطورة في الفنادق والمنازل "المسكونة". فهي فرضية انتقائية جداً  تفترض أن الأشباح تتفاعل مع العالم الطبيعي بواسطة الصوت والصورة لكنها تتوقف عند هذا الحد ولا تنطبق عليها بقية قوانين الفيزياء.

وربما الأكثر إضحاكاً هي نظرية الأرض المسطحة، ولكنها الأكثر محاولةً لاستعمال الأدوات العلمية وأجهزة قياس والرياضيات ولكن بشكل خاطئ وبتصور مسبق.

أمثلة محلية
المعتقدات الخاصة وإن كانت تتعارض مع المعرفة العلمية المتراكمة ليست بالضرورة علم الزائف، خصوصاً إذا كانت لا تقدم نفسها على أنها علم. لكن هناك محاولات متكررة لفرض بعض المعتقدات في المناهج التعليمية أو في التشريع، وتقديمها على أنها علم.

أحد الأمثلة على ذلك، تفاعل المجتمع اللبناني مع محاولة بعض النواب إلغاء المادة التي تجرم المثلية الجنسية في قانون العقوبات. في هذه القضية، هناك بعض الأشخاص الذين يريدون الإبقاء على هذه المادة. يستندون إلى معتقداتهم الخاصة لكنهم لا يكتفون بذلك، بل يحاولون أيضاً تقديم أفكارهم على أنها حقائق علمية.

على سبيل المثال، الناشط بيار حشاش الذي ادعى أنه يستند في موقفه الرافض لإلغاء قانون تجريم المثلية إلى ما يعتقد (مخطئاً) أنه تعاليم الكنيسة. لكنه لا يكتفي بذلك، بل يكرر أيضاً آراء منتشرة على طول وعرض وسائل التواصل الاجتماعي (آراء مدفوعة بالهوموفوبيا والميزوجينية) حول التربية والتعليم والرياضة والطب، وذلك لتدعيم موقفه المنحاز وإلباسه ثوباً علمياً.

مثال آخر، ما قاله مخرج البرامج الفكاهية محمد الدايخ في أحد البرامج الإذاعية. في البداية رد الدايخ على سؤال المذيع بعبارة سوقية أشبه بالبلطجة الثقافية "مرحبا دراسات" (في إشارة لرفض الدراسات العلمية التي تنفي عن المثلية ارتباطها بالاضطراب العقلي أو السلوكي)، ولم يتوقف عند هذا الحد بل استطرد ليخبرنا قصة قصيرة عن شخص مثلي ارتد عن مثليته وعاد مغايراً. ويختم عبارته بأن الأمر برمته هو انعدام للقيم والمبادئ. 

المشكلة ليست في عبارة "مرحبا دراسات"، فحتى رفض العلم يندرج تحت حرية اعتقاد، بل المشكلة في استطراد الدايخ بعد ذلك والقصة اللاحقة التي اخترعها، نستطيع تلمس دوافعها وديناميتها جيداً، فقد أعطانا "كارل ساغان" جهازاً فعالاً لكشف الهراء.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها