في كتابه الجديد Quantum supremacy: how the quantum computer revolution will change everything (التفوق الكمّي: كيف ستغير ثورة الكمبيوتر الكمومي كل شيء)، يأخذنا ميشيو كاكو (أستاذ الفيزياء النظرية في جامعة نيويورك) في جولة ساحرة. يبدأها باعتقاده أن هذا الكمبيوتر الكمّي (quantum computer) هو الكمبيوتر المطلق، الذي سيحول السوبر كمبيوتر (في البنتاغون مثلاً) إلى خردة.
هذا الكمبيوتر ستكون له القدرة على استخدام قوة الحسابات المتقدمة والتحليل الفائق السرعة لتوليد الحلول لمعادلات في الفيزياء والبيولوجيا والرياضيات، حسابات قد تستغرق ملايين السنين لحلها باستخدام التكنولوجيا الحالية. إنها الحوسبة (computing) على مستوى الذرات، لذلك هي الحوسبة المطلقة، فلا شيء أصغر من الذرات لتكون منطلقاً للحوسبة.
يستفيض كاكو باستعراض بداية نظرية الفيزياء الكمومية وتطورها و "قطة شرودنجر" والمناظرة الشهيرة بين نيلز بور وأينشتاين.. كل ذلك تمهيداً لشرح مفصّل حول كيفية عمل الذرات داخل "المعالج" (processor) في هذا الكمبيوتر الجديد.
سرّ قوة الكمبيوتر الكمّي
تعتمد الحواسيب الحديثة التي نستخدمها اليوم على التكنولوجيا الرقمية، حيث تعمل على معالجة سلاسل من الأرقام المكونة من الأصفار والواحدات. وتسمى أصغر وحدة في هذه السلاسل "بت" (bit)، وتكون إما 0 أو 1.
أما الكمبيوتر الكمّي، فهو يحتاج إلى فهم مختلف تماماً. علينا النزول إلى المستوى ما دون الذرّي، حيث الجزيئات المصفوفة في المعالج تهتز وتدور للأعلى والأسفل، "إنها ببساطة ترقص بين كونين".
تسمى الوحدة الأساسية في الكمبيوتر الكمّي "كيوبت" (qubit)، والتي يمكن أن تتخذ أي قيمة محتملة بين 0 و1 (0.56 على سبيل المثال)، وأن تكون أيضاً في حالة مركبة، حيث يمكنها أن تكون 0 و1 في الوقت نفسه. بل ويمكن أن تكون حالتها مرتبطة بحالة كيوبت أخرى (entanglement).
يتيح تنوع حالات كيوبت وتفاعلاتها مع بعضها إمكانيات حوسبة هائلة، وكلما زاد عدد الكيوبت في المعالج، زادت قوته وأدائه بشكل مضاعف. على سبيل المثال، فإن سايكامور من جوجل (Sycamore) بقدرة 53 كيوبت، يمكنه معالجة 72 مليار مليار (quintillion) بايت. بهكذا قدرات، فإن "التفوق الكمّي يجعل أي كمبيوتر تقليدي يبدو قزماً".
السباق المحموم
أصبحت أجهزة الكمبيوتر الكمومية محط اهتمام كبير لدى حكومات الدول الكبرى والشركات العالمية، مثل دايملر مالكة مرسيدس التي لا علاقة لها بصناعة الحواسيب، لكنها تستثمر بشكل كبير في هذا المجال باعتباره يمهد الطريق لتكنولوجيا جديدة في مجال صناعة السيارات وأنظمة تشغيلها. وهناك أيضاً العديد من الشركات الناشئة بدأت استثمار مليارات الدولارات في مشاريع تطوير التكنولوجيا الكمومية، التي تَعد بنتائج مذهلة في مجالات الطب والطاقة والغذاء…
في هذه اللحظة تتصدر IBM السباق بجهاز Osprey بقدرة 433 كيوبت، يليها جهاز Jiuzhang الصيني بـ 76 كيوبت. أما غوغل فلديها Bristlecone بقدرة 72 كيوبت و Sycamore بقدرة 53 كيوبت. ويتمتع جهاز Tangle Lake التابع لشركة Intel بقدرة 49 كيوبت.
بعد Eagle و Osprey، تعتزم IBM هذا العام تشغيل جهاز Condor بقدرة 1,121 كيوبت. هدفها هو تحقيق "تفوق كمّي" يتيح الاستخدام العام لهذا النوع من الحواسيب خلال السنوات القليلة المقبلة، وبناء جهاز بقدرة مليون كيوبت في نهاية المطاف.
تجاوز المطبّات
في الفيزياء الكمومية يبدو كل شيء ممكناً، لكن أيضاً تحتاج معظم الأشياء إلى ظروف خاصة متماسكة (coherence) كي تتحقق.
أول المطبّات التي تواجه الكمبيوتر الكمّي أنه يحتاج إلى أجهزة تبريد معقدة ومكلفة، هو يبدو مثل ثريا عملاقة بسبب كل الأنابيب والمضخات الضرورية لتبريد قلب المعالج (الذي يوازي حجمه حجم القطعة النقدية المعدنية) كي تقترب حرارته من الصفر المطلق، الحرارة شديدة البرودة ضرورية لتفادي اضطراب الإلكترونات حتى تصبح دوائر "كمومية-ميكانيكية" في المعالج.
المطبّ الثاني هو الاهتزاز، فهذا المعالج الكمّي يحتاج إلى استقرار كبير، أدنى اهتزاز يمكنه أن يخل بتماسك الدوائر، حتى عطسة شخص ما يمر بجانبه قد تفسد الحوسبة!
مسألة أخرى تقض مضجع وكالات الاستخبارات، وهي قدرة أجهزة الكمبيوترات الكمومية على كسر أي تشفير رقمي. أمر يطرح تهديداً جدياً على الأمان العالمي والاقتصادي. فهناك مليارات الدولارات تتحرك يومياً في الفضاء الرقمي. وهي تحتاج للحماية قبل دخول الكمبيوتر الكمّي حيز الاستخدام العام. طبعاً يمكن لأجهزة الكمبيوتر التقليدية فك التشفيرات من حيث المبدأ، لكن تعقيد بيانات التشفير عادة ما تفوق طاقة الكمبيوتر الرقمي لناحية الوقت المطلوب لحلها. أما مع الكمبيوتر الكمّي فإن الوقت ليس مشكلة بالمرة.
خبراء الأمن السيبراني الذين قد لا يمتلكون خلفية في الفيزياء، باتوا الآن مجبرين على تعلم الفيزياء الكمومية. كذلك معيار RSA المعتمد على نطاق واسع لتحديد مدى قوة التشفير قد يواجه في المستقبل مشكلة ما لم يعتمد بدوره على الكمبيوتر الكمّي، من أجل توليد خوارزميات تشفير جديدة تكون أقوى من احتمالات الاختراق.
في السنوات العشر المقبلة من المتوقع تجاوز المشكلات التي تعيق دخول الكمبيوتر الكمّي حيز الاستخدام العام، سوف يتمكن الناس من الدخول إلى كمبيوتر كمّي مركزي بواسطة أجهزة رقمية، تتركز قوتها على سرعة الاتصال بدلاً من الحوسبة منفردةً كما هو الحال اليوم. سندخل عصر التفوق الكمّي الحقيقي حين يتحقق التماسك الكمّي (Quantum Coherence).
جولة في المستقبل
يعتقد كاكو أن الكمبيوتر الكمّي سيكون له دور حاسم في تحديد استقرار الثقوب الدودية (Wormholes)، وهذا إذا أردنا استخدامها للسفر بين النجوم والمجرات في قرون مقبلة.
من بين العديد من مجالات البحث، يركز كاكو في بداية الجزء الثاني من كتابه على نشأة الحياة وكشف أسرارها الكمومية. يرى أن الكمبيوتر الكمّي سيساهم في فهم عملية البناء الضوئي كي يتم تقليده (Synthetic Photosynthesis) وتوفير غذاء الكوكب بأكمله، كذلك الاهتمام بالحلول البيئية وتوفير الطاقة بتسخير الشمس (Putting the sun in a bottle) وعلاج الأمراض المستعصية.
يشير كاكو إلى أهمية مشروع الجينوم البشري وما تم إنجازه، لكنه يعتقد أن الكمبيوتر الكمّي قد ينقل هذا المشروع إلى مستوى أعلى من خلال فك شفرة الجينوم البشري على المستوى الجزيئي. حيث يمكّن العلماء من شفاء أمراض مثل الزهايمر أو إبطاء الشيخوخة وربما فتح بوابة الخلود.
نتحدث عن تفاعلات كيميائية دقيقة من دون مواد كيميائية، عن بيولوجيا من دون مواد عضوية… كلها داخل كمبيوتر!
ثنائية الذكاء الاصطناعي والكومبيوتر الكمّي
يعتقد كاكو أن الذكاء الاصطناعي لن يكون ابداً قادراً على التصرف ككائن اجتماعي. فهو كما الكلب لا يعرف معنى "الغد"، لكنه جيد جداً بقدرته على التعلم من الأخطاء. وقد برهن الذكاء الاصطناعي مؤخراً عن أهميته في مجالات عديدة لاسيما الطب، إلا أنه بقي محدوداً بقدرات الكمبيوتر الرقمي. لكن في المقابل فإن تزاوج الذكاء الاصطناعي والكمبيوتر الكمّي، سيفتح أفاقاً جديدة للبحث.
يتمتع الذكاء الاصطناعي بقدرة تعلم مهام جديدة ومعقدة، ويمكن للكمبيوتر الكمّي توفير القوة الحسابية التي يحتاجها. هكذا ثنائية سوف تغير نمط حياتنا وتغير الاقتصاد بشكل جذري. سوف يوفر لنا الذكاء الاصطناعي القدرة على إنشاء روبوتات تعليمية، يمكنها أن تبدأ في محاكاة قدرات الإنسان، في حين يمكن للكمبيوتر الكمّي توفير القوة الحسابية اللازمة لإنشاء آلة ذكية بالفعل. وعلى عكس الذكاء الإصطناعي الذي لا يمكنه التدقيق في الحقائق، فإن الكمبيوتر الكمّي يمكنه تعلم أساسيات العلوم والتحقق من مدى صحة المعلومات المطروحة.
عن هذه الثنائية يقول ساندر بيشاي، المدير التنفيذي لشركة جوجل: "أعتقد أن الذكاء الاصطناعي يمكنه تسريع الحوسبة الكمومية، كذلك الحوسبة الكمومية يمكنها تسريع الذكاء الاصطناعي".
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها