الأحد 2023/12/10

آخر تحديث: 11:47 (بيروت)

الذكاء الاصطناعي الإسرائيلي لا يرى مدنيين في غزة!

الأحد 2023/12/10
الذكاء الاصطناعي الإسرائيلي لا يرى مدنيين في غزة!
غزة هي مختبر للتكنولوجيا العسكرية الإسرائيلية (Getty)
increase حجم الخط decrease

بعد استئناف إسرائيل حملتها العسكرية على قطاع غزة، إثر انتهاء مرحلة وقف إطلاق النار التي استمرت لسبعة أيام، نشرت المجلة الإسرائيلية-الفلسطينية 972+ تحقيقاً مفصلاً  للصحافي يوفال أبراهام بعنوان "مصنع للاغتيال الجماعي". سلط التحقيق الضوء على استخدام إسرائيل لبرنامج يدعى "Habsora" أو بالإنكليزية "The Gospel"، هذا البرنامج الذي يعتمد على الذكاء الإصطناعي، كان قد بدأ الجيش الإسرائيلي في تطويره عام 2019 ضمن إدارة جديدة خاصة باستحداث الأهداف "العسكرية" في غزة.

انتشر تحقيق مجلة 972+ بشكل واسع في الصحافة العالمية، ومنها الغارديان، وبرزت قيمته في اعتماده على شهادات عدد من ضباط الاستخبارات العسكرية السابقين والحاليين، وما جاء في هذه الشهادات من دلالات على تحول في بروتوكولات التعامل مع المدنيين الفلسطينيين بين الحرب الجارية والحروب السابقة على قطاع غزة.

مصنع "The Gospel"
يعالج برنامج "The Gospel" كمّاً هائلاً من البيانات بشكل أدق وأسرع من أي إنسان، ويحولها إلى أهداف للقصف. منذ لحظة تفعيل هذا البرنامج في عام 2021، تسارع إنتاج "الأهداف" في قطاع غزة من 50 هدفاً جديداً في السنة (قبل الإدارة الجديدة للأهداف) إلى 100 هدف في اليوم.

يضم هذا البرنامج بيانات مختلفة تم جمعها لعدة سنوات، تتعلق بحوالى 30000 من عناصر وقيادات حماس والجهاد الإسلامي، وأماكن سكنهم واحتمالات لأماكن تواجدهم، بناءً على إشارات هواتفهم أو هواتف أفراد عائلاتهم، وهو أمر سهل نسبياً مع تحكم إسرائيل بشبكة الاتصالات في غزة. كما أن لإسرائيل باعاً طويلاً في تطوير برامج التجسس، لا سيما برنامج "بيغاسوس" الشهير من شركة "NSO Group"، هذا البرنامج الذي تم إصداره رسمياً عام 2016 وتطور منذ ذلك الحين، لم يعد زرعه في الهاتف المطلوب مراقبته يحتاج إلى ضغط المستخدم على "لينك" أو ما شابه، بل يمكن لإسرائيل زرعه بشكل "صامت" في أي هاتف ذكي في قطاع غزة أو حول العالم.

يعطي برنامج "The Gospel" تقديرات دقيقة عن عدد الضحايا من المدنيين في حال تم استهداف شقة مسؤول في حماس بسلاح معين. وكشف تحقيق 972+ عن مصدر استخباراتي قوله بأن البروتوكول في الماضي كان ينص أن العدد المسموح به من الضحايا المدنيين إلى جانب قتل الشخص المستهدف هو خمسة أو ما دون. لكن في الحرب الحالية يبدو أن ذلك البروتوكول تمت تنحيته جانباً بتوصيات من وزير الدفاع "غالانت"، لمصلحة تقديم "انتصار" أمام الرأي العام الإسرائيلي. وبالفعل فقد تم استهداف مسؤول واحد في حماس بستة قذائف تزن الواحدة منها طناً أسفرت عن مقتل وجرح 500 مدني في مخيم جباليا.

بدأت الحاجة لبرنامج "The Gospel" إبان عدوان 2019 على قطاع غزة، حين انتهى الجيش الإسرائيلي من ضرب كل الأهداف التي بحوزته في الأيام الثلاثة الأولى من تلك العملية. فكان لا بد من مصنع لتوليد الأهداف الجديدة، لأن الحكومة أرادت تمديد مدة الحرب لأسباب سياسية. إن السرعة الهائلة التي يتم بها توليد الأهداف في الحرب الدائرة اليوم باتت أسرع من تنفيذ الهجمات. قال أحد المصادر (ضابط استخبارات) من الذين عملوا في "الإدارة الجديدة للأهداف" لمجلة 972+: "إنها حقاً مثل مصنع، نحن نعد الأهداف تلقائياً ونعمل بسرعة، وليس لدينا وقت للغوص في كل هدف".

"أهداف" إسرائيل في غزة
أظهر تحقيق مجلة 972+ أربعة أنواع من الأهداف التي أعدتها إسرائيل للقصف في قطاع غزة:

- الفئة الأولى هي "الأهداف التكتيكية"، والتي تشمل الأهداف العسكرية مثل العناصر المسلحة ومستودعات الأسلحة ومنصات إطلاق الصواريخ ومدافع الهاون والمقرات العسكرية.

- الفئة الثانية هي "الأهداف الأرضية"، وهي تتمثل في الأنفاق التي حفرتها حماس، ويمكن أن تؤدي الضربات الجوية على هذه الأهداف إلى انهيار المنازل الواقعة فوق أو بالقرب من المكان المزعوم لهذه الأنفاق.

- الفئة الثالثة هي "أهداف القوة"، والتي تشمل الأبنية العالية والأبراج السكنية في قلب المدن، والمباني العامة مثل الجامعات والبنوك والمكاتب الحكومية. والفكرة وراء ضرب مثل هذه الأهداف، كما قال ثلاثة مصادر استخباراتية شاركوا في تخطيط أو تنفيذ ضربات على "أهداف القوة" في الماضي، هي أن هجوماً متعمداً على المجتمع الفلسطيني يخلق "ضغطاً مدنياً" على حماس.

- الفئة الرابعة تتكون من "منازل العائلات" أو "منازل العناصر". والغرض المعلن من هذه الهجمات هو تدمير المنازل الخاصة من أجل اغتيال ساكن واحد، يشتبه في كونه عنصراً في حماس أو الجهاد الإسلامي. ومع ذلك، تؤكد شهادات الفلسطينيين أن بعض العائلات التي قتلت في الحرب الحالية، لم تشمل أي عناصر من هذه المنظمات.

تكتيك إرهابي
خلال عدوان عام 2021، ضربت إسرائيل تسعة أهداف في غزة تم تعريفها بأنها "أهداف قوة"، وكلها أبنية عالية. كان الهدف إسقاط الأبنية العالية من أجل الضغط على حماس. وهو تكتيك إرهابي بامتياز بدأت قصته مع قصف أبنية الضاحية الجنوبية لبيروت عام 2006 بهدف خلق حالة من الضغط الشعبي ضد حزب الله في حينها، وكان يسمى "تكتيك الضاحية" قبل تحوله إلى "أهداف القوة".

في الحرب الحالية على غزة تم تدمير 100 برج في الأسبوع الأول، وعلى خلاف الحروب السابقة لم يتم هذه المرة إبلاغ السكان بضرورة الإخلاء، فتم قصف الأبنية والسكان بداخلها.
عادة تبرر إسرائيل قصف "أهداف القوة" بأن هناك شقة تابعة لحماس ويمكن أن يكون صاحبها عضواً عادياً وربما غير عسكري. لكن بدلاً من استهداف الشخص المطلوب بشكل "جِراحي" يتم تدمير البرج بكامله لأن الهدف هو البرج وليس الشخص.
لا يبدو أن إسرائيل تحقق أهدافها المعلنة في غزة، وهي تدمير حماس، لكنها تسعى كما كشف تحقيق مجلة 972+ إلى كسر إرادة السكان وتركيعهم من أجل تحريضهم ضد حماس، وهذه فكرة جهنمية لا تليق إلا بدولة كإسرائيل. فإذا كان الغزاويون سوف ينقلبون على حماس بعد الحرب، فهذا يعني أن إسرائيل تراهن على من تقصفهم بأن يقفوا إلى جانبها في نهاية المطاف!

الهدف الآخر للحرب هو تجاري بحت، ففي كتابه الذي صدر هذا العام بعنوان "The Palestine Laboratory" يغوص الصحافي والكاتب الاسترالي Antony Loewenstein عميقاً في هذا البعد التجاري للحرب والاحتلال بشكل عام. وفق لوينشتاين، غزة هي مختبر للتكنولوجيا العسكرية الإسرائيلية وتشكل عاملاً مهماً في تصدير تلك التكنولوجيا "المجرّبة".

التعمُّد وثنائية مدني-عسكري
يسود في الغرب وإعلامه، اعتقاد بأن حماس تعمّدت قتل المدنيين في 7 تشرين أول الماضي، وهذا ما يجعل تصنيفها كمنظمة إرهابية وجيهاً. ويتابع هذا المنطق، بأنه على الرغم عدم التناسب بين ما قتلته حماس من مدنيين في ذلك اليوم وآلاف المدنيين الذين تقتلهم إسرائيل في غزة، فإن إسرائيل وعلى العكس من حماس لا تتعمد ذلك، وهؤلاء مجرد ضحايا عرضيين في حربها ضد الأخيرة!

تبرز مسألة التعمّد أو النيّة أيضاً في القانون الدولي، عندما يتم تناول جرائم الحرب واستهداف المدنيين. أهمية تحقيق مجلة 972+ أنه أظهر أدلة لا تقبل الشك من قلب المؤسسة العسكرية الإسرائيلية بأنهم تعمّدوا قتل المدنيين في غزة وبشكل منهجي، كما مارسوا تكتيكات إرهابية مثل "أهداف القوة" بهدف الضغط على المدنيين كي يقوموا بالضغط على حماس بدورهم.   
تنطلق التصورات الغربية التي نراها في الإعلام من مفاهيم تَعتبر المجموعات المسلحة جزءاً من المجتمع المدني، لا بل تحميل المجتمع كاملاً مسؤولية قيام جماعة تنبثق منه بحمل السلاح. أبرز ما جاء في هذا الصدد ما اعتبره المؤرخ الألماني إرنست نولت في كتابه "الحرب الأهلية الأوروبية" بأن "الأنصار" السوفيات قد انتهكوا القانون الدولي عندما تسلحوا وهاجموا الجيش الألماني (خلال حصار ستالينغراد!)، وأن الجيش الألماني كان له الحق في قصف المدنيين الروس لأن "الأنصار" كانوا جزءًا لا ينفصل عن المجتمع.

هذا التمييز الميتافيزيقي بين المدني والعسكري هو تمييز أيديولوجي بامتياز. فهذه الثنائية ليست ذات طبيعة جوهرية لهذه الدرجة، والإصرار على هذه الثنائية يصل في نهاية المطاف إلى تجريد الإنسان من إنسانيته. لأنه وفق هذا المنطق المنتشر بشكل واسع اليوم، تصبح التسلسلية لقيمة حياة البشر على النحو التالي، الأفضلية للمدني (المتحضر) ثم العسكري الرسمي، وبعد ذلك يأتي العنصر المسلح الذي خان مدنيته عندما حمل السلاح ومعه كل المجتمع الذي ينتمي إليه، فهؤلاء أصبحوا شيئاً واحداً: "حيوانات بشرية"، وفق التصريح الإسرائيلي الشهير عن أهل غزة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها