الأحد 2023/11/19

آخر تحديث: 11:39 (بيروت)

المقاطعة ونظرية الناشط-المستهلك

الأحد 2023/11/19
المقاطعة ونظرية الناشط-المستهلك
هناك نوع من المقاطعة "الناشطة" يضر بالعمال المنتجين (Getty)
increase حجم الخط decrease

في أواخر الثمانينيات، كنا نظن أن لكوكا كولا طعم أسطوري، خصوصاً عندما نسمع من هم أكبر سناً يتمازحون بأنهم على استعداد لتقبل السلام مع العدو مقابل قنينة منها.

في ذلك الوقت، كانت جهود مقاطعة المنتجات التي تدعم إسرائيل تتراجع تدريجياً في جامعة الدول العربية، حيث انسحبت الدول تباعاً من مكتب المقاطعة التابع للجامعة. لكن لبنان ظل صامداً أكثر من غيره في هذه المقاومة الاقتصادية، فبقيت ماركات مثل "ليفايز" ممنوعة من دخول البلد حتى وقت غير بعيد. 

المقاطعة في زمن الحروب
في ظل حرب الإبادة التي يشنها جيش الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة، تصاعدت حملات المقاطعة في الدول العربية. وأغلب الظن أن الاستفزاز الذي بدأته "ماكدونالدز" بإعلانها عن توزيع وجبات مجانية على جيش الاحتلال في الأيام الأولى للعدوان على غزة، كان دافعاً قوياً لانخراط العديد من الناس في جو المقاطعة هذا، كأفراد أو عبر الانخراط بحملات منظمة.

وإذا كانت المقاطعة مفهومة على المستوى الفردي كرد فعل طبيعي في أوقات الأزمات الحادة، فإن بعض الحملات التي اجتاحت وسائل التواصل الاجتماعي أظهرت تعسفاً واعتباطاً استدعى ردود فعل معاكسة، فـ"ضاعت الطاسة".
تحولت بعض الحملات في الدول العربية إلى ما يشبه البحث الدائم عن بديل "وطني" لأي منتج مستورد بغض النظر عن كون الشركة المصنعة لهذا المنتج داعمة لإسرائيل أم لا. وقد وصل الأمر إلى اقتراح استبدال الأدوية المستوردة بأخرى محلية في مصر، كما كانت هناك دعوات لمقاطعة صناعات مصرية، فقط لأن أصحابها هم وكلاء لبعض الماركات المستوردة.

معايير BDS
خلال التظاهرات الداعمة للفلسطينيين والتي اجتاحت مدن وعواصم العالم في هذا الشهر، ظهرت لافتات لحركة BDS مما ساهم في اعتمادها مرجعاً لتحديد الشركات الداعمة لإسرائيل. تأسست هذه المنظمة غير الحكومية في منتصف التسعينات من قبل ناشطين فلسطينيين، ولديها امتدادات في العديد من الدول. وكما يدل اسمها إختصاراً فهي تعمل على المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (Boycott, Divestment, Sanctions). تدعو الحركة إلى مقاطعة جميع منتجات الشركات الإسرائيلية والعالمية التي تشارك في انتهاكات حقوق الفلسطينيين، وتركز الضغط على الحكومات والشركات، خصوصاً تلك التي تعمل أو تفتتح فروعاً لها في المستوطنات غير الشرعية المنتشرة في الضفة الغربية. وفي حين أن الحركة تقر على موقعها بأنها غير قادرة على تشكيل حملات تستهدف كل الشركات التي تدعم إسرائيل في انتهاكاتها لحقوق الفلسطينيين، فإنها تزعم بأنها تقوم بانتقاء أهدافها بعناية مع الأخذ بالاعتبار الفعالية والتأثير. ومع ذلك، فإن هذه الانتقائية المبررة بدافع الفعالية تزيد من غموض المعايير، وتكتفي الحركة بالقول أن الشركات المستهدفة قد تم اختيارها بعناية. واحدة من الأمثلة على ذلك هي الحملة التي تستهدف شركة HP المعروفة في صناعة الكمبيوترات والطابعات، بسبب اعتماد الجيش الإسرائيلي على حواسيبها لتسجيل بيانات مواطني الضفة الغربية وتتبع حركة دخولهم وخروجهم على المعابر. ولم يتسنَ لي التأكد من عمق تورط HP في برمجة وإدارة وتخزين بيانات هكذا برنامج يدخل في صلب نظام الأبارتايد. ومن الطبيعي استخدام جيش الاحتلال لحواسيب من ماركة معينة بدلاً من أخرى. لكن إدانة الشركة والدعوة لمقاطعتها فقط لهذا السبب، يبدو أمراً مضللاً.
لكي تكون BDS مقنعة يجب أن تكون معاييرها أكثر وضوحاً وشفافية. إن على المستوى الحملات الاقتصادية أو على مستوى المقاطعة الثقافية والأكاديمية، والتي لا تقل غموضاً وإرباكاً عن الأولى.

نظرية الناشط-المستهلك
تنقسم المقاطعة إلى نوعين: المقاطعة الشعبية التي تجتاح وسائل التواصل الاجتماعي هذه الأيام، والمقاطعة التي تمارسها الدول أو الائتلافات الدولية مثل الاتحاد الأوروبي والجامعة العربية وغيرهما. وقد نجحت BDS في الماضي بالضغط على دول أوروبية لسحب استثمارات شركاتها من مستوطنات المناطق المحتلة ومقاطعة البضائع المنتجة في هذه المستوطنات. نجاح هذه الحملات ينطلق بالأساس من كون وجود المستوطنات في الأراضي الفلسطينية المحتلة يخالف القانون الدولي.

يمكن الجزم بأن المقاطعة "الرسمية" أو تلك التي تدفع الدول إلى تغيير سياساتها، كان لها تأثير كبير في دعم الحقوق الفلسطينية، على عكس المقاطعات الشعبية ذات النفس الـ"أن جي أوزي" التي تصور العالم على أنه ناشطون "غانديون" بمواجهة إسرائيل.
هي نظرية الناشط-المستهلك، حيث المستهلك هو سيد النظام الاقتصادي العالمي، يتوهم إدارة هذا الاقتصاد عبر ترشيد استهلاكه، فتارة يكون المستهلك البيئي وتارة هو مستهلك غير ذكوري، ومرة هو المستهلك العادل الذي يدفع الرأسمالية لكي تكون عادلة مثله إن أراد.
من هذا الموقع تنطلق المقاطعة "الناشطة"، كما لو أن الإنسان ليس له دور في علاقات الإنتاج. كما لو أنه فقط كائن مستهلك عليه أن ينصاع لناشط المقاطعة كي يصبح الناشط-المستهلك بدوره. ولهذا السبب، يتم النظر إلى "ستاربكس" كشركة من دون النظر إلى ملايين عمال ستاربكس الذين أيدت نقاباتهم الحقوق الفلسطينية.

تأثير المقاطعة
هذا النوع من المقاطعة "الناشطة" يضر بالعمال المنتجين ويؤثر على لقمة عيشهم في قطاعات عديدة مثل سلسلة المطاعم العالمية أو مصانع المشروبات الغازية، التي استأجرت إسم الماركة العالمية مقابل مبلغ لا يذكر (Royalty) قياساً بالضرر الحاصل على المستوى المحلي في حال توقفت هذه الأعمال. ويمتد الأمر إلى الزراعة والمواد الأساسية المحلية المستخدمة في هذه الصناعات.
وتجدر الإشارة هنا أن ثالث شركة من حيث عدد الموظفين في قطاع غزة قبل العدوان كانت شركة كوكا كولا.
إنها ذهنية الانفصال عن الواقع. فهؤلاء الناشطون يريدون مقارعة كل حملات الترويج والإعلانات وعقود الرعاية لدى هذه الشركات العالمية، والتي يُدفع فيها مليارات الدولارات سنوياً، من خلال لبس الكوفية والدخول إلى "ماكدونالدز" وترويع العامل خلف مقلى البطاطا. أضف إنها لا تبدو خطة فعالة حتى اللحظة، فمعظم الشركات الكبرى على لوائح المقاطعة تحقق أسهمها صعوداً ملحوظاً منذ شهر ونصف الشهر. التأثير صفر على هذه الشركات، ربما فقط في دول الخليج قد يكون لها تأثير، إذا ما حذت حذو الكويت بسبب الانتشار الواسع لهذا النوع من المطاعم والمقاهي في هذه الدول.

إذا واجهت هذا الناشط الذي يدعو للمقاطعة بالضرر الذي يلحقه بعمال بلده، غالباً ما يستشهد بالمثال الروسي ويدعو إلى تعميمه. ففي روسيا، بقيت المطاعم والمقاهي بلا أسماء لفترة إثر المقاطعة العكسية التي مارستها الشركات نفسها على روسيا، ما اضطر أصحاب هذه المحلات إلى تغيير أسمائها وإبقاء طابعها القديم. هذه المحاججة التي لا تلحظ الفارق بين ما حدث في روسيا وما يحدث اليوم، هي من سمات العقل الـ"أن جي أوزي".

لكن الناشط المتحذلق لا يكلّ. فهو ينتقل للحديث عن الخيارات الصحية وأهمية تجنب الأكل السريع والمشروبات الغازية عندما تنفذ الحجج أو ربما قد يصل إلى التصريح بأن قهوة "ستاربكس" غير لذيذة، على طريقة دعابة "بكفّي خوف من المجتمع".

لقد ترددت كثيراً قبل الخوض بهذه المسألة الشائكة وفي هذه الفترة بالتحديد، ولن أتطرق إلى بعض أنواع المقاطعة الثقافية (الإرهاب الثقافي) التي منعت الفنانين العالميين الذين زاروا إسرائيل من الغناء في بيروت، ولن أتحدث عن منع الكتب الذي أرى أنه غباء خالص. لكني حاولت أن أتناول جوانب من المقاطعة الاقتصادية، تلك التي تتسم بالتعسف والاعتباط والتضليل، من الموقع المناصر للعمال والمنتجين ومن أجل حقوق الشعب الفلسطيني تحديداً.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها