وفتيان هذه الأحياء وأهلها هم المادة البشرية الأطوع والأقرب منالًا للمنظمتين الشيعيتين في حشدهما الناس والأنصار حشدًا أهليًا واسعًا وكثيفًا في مهرجاناتهما واحتفالاتهما المحمومة في أحياء الضاحية الجنوبية والجنوب وبعلبك. ويُظهر حديث سامر وصحبه أن هذه المهرجانات والاحتفالات تشبه أعيادًا مشهودة في حياتهم. ففي واحد من هذه الأعياد تعرّف سامر إلى "أزعر" في الحركة يسمي نفسه "مجلة"، وآخر يدعى "سكين". وروى أن صبيًا في زمرتهم لا يتجاوز عمره سنوات تسع، طعن فتى بسكين في شجار خاضوه ضد زمرة أخرى. وغالبا ما يبدأ فتيان بدايات الجنوح نشاطهم اليومي بعد ظهر كل نهار على بوابة المدرسة الرسمية القريبة من حيهم السكني في "الحرش" الذي يسميه تلامذة المدرسة الذين يسكنون فيه بأسماء كثيرة: طريق المطار، مستديرة المطار، جسر المطار، قرب مستشفى عكا، شاتيلا، و"الحرش".
ترويع العمال السوريين
يستيقظ فتية الشوارع الجانحين بين الحادية عشرة والثانية عشرة ظهرًا في بيوت أهلهم. أم سامر هي التي توقظه غالبًا، فيترك فراشه ليجدها تطبخ أو تغسل الثياب أو تكنس البيت. يرتدي ثيابه ويخرج إلى أزقة الحي. ضجرًا وحائرًا ماذا يفعل يقف وقتًا قصيرًا أمام البيت، قبل أن يحين وقت تجمع رفاقه في بورة قريبة، يلعبون فيها "الفطبول"، أي كرة القدم. بعد لعبهم ساعة أو اثنتين، يتناولون غداءً متأخرًا في بيوتهم، ويخرجون منها مجددًا فيلتقون حيث تعودوا الجلوس على جدار منخفض على حدود الحي، قبالة الشارع بين جسر المطار والسفارة الكويتية. وفي جلستهم على هذا الجدار الذي يسمونه "حافة"، يتسلون في أن "نزرِّك لبعضنا". و"التزريك" في لغتهم يعني تبادلهم شتائم تستمد أسبابها ولغتها من مبارياتهم بكرة القدم في البورة. لكن في الحي، قبل انطلاقهم إلى الشارع القريب من المدرسة، "منبيّن أوادم أمام أهلنا"، قال سامر. أما "الزعرنات" والمشاكل، فغالبا ما تبدأ بعد محطتهم عند بوابة المدرسة، وتستمر حتى ساعات الليل. من زعرناتهم إقدام أحدهم على "فركشة" عامل سوري عابر في طريق. إذا دافع العامل عن نفسه ضد المعتدي عليه، يهاجمونه جميعهم ويضربونه. والعامل السوري الذي يجر عربة خضار، يقلبون عربته ويهربون، أو يضربونه إذا رغبوا. والعامل السوري الذي يسأله أحدهم: كم الساعة؟ فيجيب بأنه لا يحمل ساعة، يلحون عليه بالسؤال: ليش ما معك ساعة يا كلب يا حيوان؟! وإذا رد العامل الشتيمة بمثلها، يضربونه ضربًا مبرحًا ويهربون.
والحرش وحي فرحات وشاتيلا وصبرا سواها من أمثالها، كالرمل العالي والأوزاعي وبئر حسن والجناح، من مآوي العمال السوريين وعمال وعاملات أجانب من سريلانكا وأثيوبيا. وروى حسين، أحد أقران سامر، أن انسحاب الجيش الإسرائيلي، صيف العام 2000، من قرى وبلدات ما كان يسمى الشريط الحدودي المحتل في الجنوب، حمل كثيرين من سكان تلك الأحياء الشيعة على العودة إلى قراهم وبلداهم المحررة، فأجّروا مساكنهم من عمال سوريين. وكان يبلغ معدل إيجار المسكن الواحد في الأحياء العشوائية المشيدة مساكنها على صورة أكواخ المخيمات الفلسطينية ومثالها، نحو 150 دولاراً في الشهر. والمساكن هذه لا يتجاوز عدد غرف الواحد منها ثلاثًا صغيرة، مقبضة ومنخفضة الأسقف، وتأوي الواحدة ما لا يقل عن ثلاثة عمال سوريين، يقيمون فيها إقامة موقتة مشتركة، ويتعاونون في دفع بدل إيجارها لأصحابها الذين شيّدوها في طفرة العمران العشوائي في زمن الحرب وبعدها، في تسعينات القرن المنصرم، من دون أن يتوقف التشييد حتى اليوم. ولما غادر بعض من أهالي القرى الجنوبية المحررة مساكنهم في الحرش، استبقوا فيها، بعد تأجيرهم أقسامًا منها من عمال سوريين، بعضًا من أفراد عائلاتهم أولئك الذين لديهم أعمال ومشاغل في المدينة، أو جعلوها محطة لإقامتهم المتقطعة بين المدينة وقراهم التي جددوا حياتهم فيها بعد تحرير الشريط الحدودي الجنوبي.
تهجير وهجرات
ينتمي سامر وفتيان الزمرة إلى جيل ولد معظمه في "الحرش" في السنوات الأخيرة من الحرب. أما أهلهم فمن جيل النزوح والتهجير والأعمال والمهن الصغيرة الموقتة والمضطربة بين قرى الجنوب وضواحي المدينة والهجرة إلى بلدان الخليج العربية ودول إفريقية وأوروبية، وخصوصًا ألمانيا. وهذه هي حال والد سامر الذي هاجر إلى السعودية وعاد منها إلى الرمل العالي وحرش القتيل. وبعض من أمثاله ومجايليه ينتسبون إلى إحدى المنظمتين الأهليتين الشيعيتين: حزب الله الذي ينتسب إليه خال سامر. وحركة أمل التي ينتمي إليها والد حسين.
وجيل فتيان الزمرة وأمثالهم لم يعيشوا في "مجتمع الحرب"، لكنهم ورثوا ويعيشون تبعاتها، واستمرار التعبئة الحربية والعسكرية في ديار المنظمتين الشيعيتين، شعارات واحتفالات ومهرجانات وطقوس وشعائر وصور شهداء، في مناخ من الاحتقان الأهلي الطائفي ونبذ الدولة اللبنانية. فالمنظمات الأهلية السياسية والعسكرية السابقة التي كانت تدعو إلى نصرة المقاومة الفلسطينية على الدولة اللبنانية "الإنعزالية المسيحية"، "صنيعة الاستعمار والاستكبار الغربيين"، ورثتها المنظمتان الشيعيتان، بعدما صارت الدولة دولة عروبة سورية ودولة مقاومة وتحرير.
مثالات إرث الحرب
وسامر وأمثاله من جيله في الضاحية الجنوبية، جيل رمادي يعيش في زمن اجتماعي دائري، مغلق وعارٍ من مثالات متماسكة سوى مثالات ذاك الإرث الحيّ السائر. فلا حياة فتيان الزمرة الأسرية ورعايتها المفترضة المطلوبة متوفرة، ولا حياتهم المدرسية تفضي بهم إلى مثال ومعنىً ووجهة، بعدما فقد التعليم أصلًا قيمته ومعاييره في بيئتهم، وانهار القطاع الرسمي منه وانحط انحطاطًا كاملًا في المرحلتين الإبتدائية والمتوسطة. وساد إرث الحرب وقيم الشارع والأهل والمنظمات العسكرية في مدارس كثيرة وإداراتها وبين تلامذتها في الأحياء. وزمر الفتيان هؤلاء عيّنة على هوامش المنضوين في المنظمتين الشيعيتين في انتظار انضمامهم إليها، أو دورانهم في حلقة مغلقة من الضياع والتمرد المجاني الرث.
والحلقة المقفلة صنيعة سيطرة المنظمتين الأهليتين إياهما سياسيًا وأمنيًا على ضاحية بيروت الجنوبية. ويحتشد هؤلاء الفتيان وسواهم في المهرجانات والاحتفالات الحاشدة التي تقيمها المنظمتان وتستخدمان الأهالي وأولادهم ديكورًا بشريًا أو "كومبارس" في مشاهد يراد منها أظهار قوتهما وسلطان قادتهما الذين لا تتحقق لهم القوة والسلطان إلا بالحشود الجماهيرية وهتافاتها.
عيد الحرمان
ففي المهرجانات التي تنظمها "حركة أمل" في الذكرى السنوية لاختفاء مؤسسها الإمام موسى الصدر، قسّمت الحركة في أحد مهرجاناتها ساحات الخلاء الفسيح قرب سوق الخضار الجديد قبالة السفارة الكويتية، قسمين اثنين يفصل بينهما شريط يمنع الاختلاط بين جمهورين: ساحة كبرى صُفّت فيها الكراسي ونُصبت فوقها الشوادر البيضاء للرسميين والشخصيات وكوادر الحركة وبطانتهم، فوصل معظم هؤلاء في سيارات مرسيدس فخمة رصاصية اللون سوداء الزجاج، وتخلب ألبابهم. أما جمهور الحركة العامي والأهلي المستقدم بالحافلات والبوسطات من قرى الجنوب والبقاع وأحياء الضاحية الجنوبية، فتُركت له مساحات خالية من سوق الخضار والفاكهة، تنبعث من إسفلتها الدبق روائح قوية تبعث على الغثيان. وغصت في هذه المساحات عائلات وشبان وفتيان وأهل، وانتشر باعة مرطبات وكعك وذرة مسلوقة ومشوية وفول مسلوق، وأشرطة كاسيت مسجلة عليها أغاني الحركة وأناشيدها الدينية. وفيما راح عريف المهرجان يكرر الكلام على "الحرمان" كان "المحرومون" يسرحون ويمرحون في "السوق الأملية" كأنهم في عيد حرمان من كل شيء، إلا من إطلاقهم الهتافات وآيات التبجيل والولاء لحركتهم وسيدها ورئيسها الذي رُفعت له صورة ضخمة ملونة يرتدي فيها عباءة عربية "أصيلة"، قرب صورة حافظ الأسد ونجليه على مستديرة السفارة الكويتية. وفيما كان عريف الاحتفال يشيد بتربية فرق "حركة أمل" الكشفية، كانت زمرة من أطفالها الكشافة يتعاركون بقسوة في ناحية من ساحة المهرجان-العيد. ولم يتوقف أولئك الأطفال عن العراك إلا حين تقدم منهم قائدهم الكشفي وانهال على وجوههم ورقابهم بصفعات فرّقتهم وفضّت اشتباكهم. ومشهد الأطفال في عراكهم ليس سوى مجسّم صغير للعراك الذي ينشب بين زمر فتيان الجنوح أمام بوابة مدرسة الغبيري الرسمية.
وروى حسين، قرين سامر في الزمرة، أنه تولى وأخواله مهمة تنظيم السير على الطريق الصاعدة من شاتيلا نحو مستديرة السفارة الكويتية في نهار مهرجان "حركة أمل". وليس بمستبعد أن يكون حسين وأقرانه في الزمرة قد تحرشوا، بعد ظهر نهار المهرجان، بعمال أو باعة عربات خضار سوريين واعتدوا عليهم، كمحطة من محطات نشاطهم اليومي في الشوارع القريبة من أحيائهم السكنية في "الحرش". ففي روايات زمرة فتيان بدايات الجنوح عن نشاطهم اليومي ونشاط شبان أكبر منهم سنًا، وسبقوهم في احتراف الجنوح، يظهر العمال وباعة الخضار السوريون لقمة سائغة لعنف مجاني، يشكل في وجه من وجوهه مرآة احتقان أهلي عبثي تعيشه ضاحية بيروت الجنوبية، في رعاية المنظمتين الأهليتين المتنافستين تنافسًا محمومًا، لا يخلو أحيانًا من استعمال السلاح للسيطرة على الأحياء السكنية وتسويرها بسلطانهما.
(يتبع)
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها