الأحد 2022/05/29

آخر تحديث: 10:36 (بيروت)

فتىً جانحٌ يفقد ذاكرته بشارع الحمراء..وتحقيق تربوي بحادثة قتل

الأحد 2022/05/29
فتىً جانحٌ يفقد ذاكرته بشارع الحمراء..وتحقيق تربوي بحادثة قتل
فتيان الجنوح تلفظهم المدارس وحطام حياتهم الأسرية الفوضوية إلى الشوارع (مصطفى جمال الدين)
increase حجم الخط decrease
بعد حلقة أولى عن فتيان التسيُّبِ والجنوح في الشوارع في بيئة العمران والاجتماع العشوائيين، وأفعالهم على بوابة مدرسة رسمية، هنا حلقة ثانية عن تبدل سلوكهم وفقدانهم لغتهم وذاكرتهم وعنفهم بعد خروجهم من بيئتهم الأليفة.

سامر وجنزارة

بعد انتهاء عراكهم في الشارع أمام بوابة مدرسة الغبيري الرسمية غروبَ نهار، اقتربتُ من سامر الذي كان لا يزال يهدّئ غضب أحد أقرانه في الزمرة، محاولًا أن ينتزع من يده قضيب حديد يرفعه ملوحًا به في الهواء في مشهد استعراضي شبه مجاني. قلتُ له إنني أريدُ محادثته، هو أو أي من أقرانه في الزمرة. التفتَ إليّ واندفعتْ من فمه أصوات لم أفهم منها سوى كلمة أستاذ. خرج صوته من فمه متحشرجًا، حارًا، خشنًا، ثخينًا، عنيف النبرة، ومتخثرًا في حلقه وحنجرته. صوتٌ طلع من جسمه الفتيِّ القصير المدكوك العضلات، كأنه جسم رجل ضُغِطَ ليظل في حجم جسم صبي صغير الحجم، ثُبِّتَ في مرحلة المراهقة. وصوت فطريٌ خام، يشخب مندفعًا من حنجرة صاحبه برِّيًّا ممتلئًا بطاقة أو عزيمة نيِّئة فجة. هي طاقة قسوة وعنف وشراسة وليدة طبيعة لم يروّضها اجتماع ولا تواصل ولا مخاطبة في أماكنَ وأوقات حياة عادية وأدوارها. صوت هو سليل حياة شوارع صاخبه وأزقة اسمنتية كامدة. حياة لم تختبر ولم تعرف إلفة الحياة في البيوت. وصوت يوحي أنه يطلع من دغل في غابة من اسمنت بلا طلاء، أو من فوهة بئر جفَّ ماؤها.

وقال سامر بصوته هذا أن أطلبَ من "جنزارة" أن يحادثني، وأشار بيده إلى فتىً نحيلٍ أسمرَ البشرة، كان لا يزال يقف قرب بوابة المدرسة. حسبتُ أن ما تلفظ به (جنزارة) لقبٌ تعارفت الزمرة على تسمية ذلك الفتى الشَّقيِّ به، ربما لأن جلده شديد السمرة التي شبهوها بالصدأ الذي يكسو المعدن. وفي نهار سبتٍ مدرسي مضى رأيتُ الفتى إياه يجلسُ وحيدًا على سطح غرف إيواء أطفال الروضة، المشيّدة عشوائيًا في طرف الملعب خلف مبنى المدرسة المتهالك. كانت الساعة في نحو الحادية عشرة قبل ظهر ذاك السبت. شمسُ أواسط حزيران لاذعةُ، والعام الدراسي مشرف على نهايته، وتلامذة الصف الأخير من المرحلة المتوسطة يتلقون دروسًا إضافية صباحية. بدا لي الفتى الأسمر الجالس وحيدًا على السطح في لذع الشمس، موحشًا كئيبًا ويبعث مشهدُه على الشفقة والرثاء. ثم تخيّلت أنه يقدّد جسمه ويشويه ويضاعف سُمرة جلده، كما تقدّد روحَهُ الوحشةُ والخواء والبطالة، فتتركُ فيها شعورًا مضنيًا بالعزلة والهباء. وتخيلته استفاق من نوم شريدٍ على مقعد خشبي على رصيف شارع، فملأ ضجيج السيارات والعابرين ولذع الشمس جسمه وحواسه، فقام مذعورًا عن المقعد ومشى هائمًا لا يدري إلى أين يذهب. ساقته قدماه إلى المدرسة التي لم يتعوّد أن يأتي اليها في مثل هذا الوقت الصباحي، فوجدها خالية خاوية. تسلق السور وصعد إلى ذاك السطح، حيث جلس لا يدري ماذا يفعل وماذا ينتظر، كمن يحدق في وحشة أطلال.

بعدما سمّى سامر الفتى الأسمر بذلك الإسم الذي حسبته لقبًا له، فكرتُ أن لزمرة فتية الشوارع ذائقةٌ لغوية رفيعة في ابتكار كلمات وأسماء وألقاب تناسبُ الأشياء وملامح البشر وحركاتهم وأشكالهم. كلماتٌ تنبئُ خشونتُها البرِّية عن أنها مستلةٌ على نحو فطري وغريزي من معدن حياتهم اليومية المتسيبة، لتسمّي الأشياء بأسماء لصيقة بمادتها وأشكالها. لكني علمتُ في ما بعد أن لفظة "جنزارة" ليست لقبًا للفتى الأسمر، بل هي كنيته العائلية، من غير زيادة ولا نقصان.

واقتربتُ في غروب النهار من جنزارة المنتحي جانبًا، وسألته إن كان يستطيع محادثتي وقتًا قصيرًا، فقال إنه غدًا في الخامسة والنصف سوف يلقاني هنا ويذهب معي أينما أريد. سألته أين كان قبل مجيئه إلى هنا، فقال إنه أمضى نهاره كله يسبح في البحر. أي بحرٍ؟ سألته. الأوزاعي، الأوزاعي، قال. ولما سألته إن كان يعمل، أجاب إنه بعد أيام سوف يبدأ يعمل سائق شاحنة كبيرة.

قتيل وتحقيق تربوي
لم يحضر جنزارة عصرَ النهار التالي مع فتية الزمرة إلى حيث تعوّدوا الوقوف في الشارع أمام بوابة المدرسة. كنت أشد من أمس رغبةً في لقائه، بعدما أمضيت الوقت الصباحي من النهار (من التاسعة حتى الواحدة بعيد الظهر) في تحقيق وظيفي مسلكي استدعاني اليه أحد موظفي التفتيش التربوي. كان موضوع التحقيق مقالة صحافية كتبتها تعقيبًا على اشتباك مسلح بين آل المقداد وآل الخنسا في الغبيري، غير بعيد من المدرسة. سقط قتيل في الاشتباك، وتبادل الطرفان حرق بعض بيوت في حييهما المتجاورين. ونجمت عن الحادثة ذيول ومضاعفات استمرت يومين اثنين، وصلت إلى المدرسة أصداؤها التي وصفتُها في المقالة الصحافية: صرف التلامذة إلى بيوتهم وتعطيل الدروس، ونشوب شجار بين الزمرة وفتيان من التلامذة، فاستمر أكثر من نصف الساعة في الشارع إياه. وقوف المدرسين على شرفات مبنى المدرسة متضاحكين مسرورين بمشهد العراك وبتحررهم من مكابدة استحالة ضبطهم التلامذة في قاعات التدريس.

أما في التحقيق، وبصفتي موظفًا في مدرسة رسمية، فاتهمني المفتش - المحقق التربوي بالخروج على "اتفاق الطائف" وتقويض أركان "السلم الأهلي"، اللبناني، وبانعدام "الحس الوطني والقومي لدي"، معتبرًا من يصف حادثة "سيئة" ويذيع الخبر عنها، لا تقل عمله  سوءًا عن الحادثة نفسها، لأنه يساهم في التأسيس لحرب أهلية. وطوال وقت التحقيق "التربوي" تهيأ لي أن مقالتي الصحافية أفشت أسرارًا عسكرية يستفيد منها "العدو الصهيوني" الذي تطالعنا يوماتنا الصحافية وسواها بأن بيننا، نحن اللبنانيين، عملاء كثيرون له.

وضاعف التحقيق "التربوي" رغبتي في استطلاع أحوال زمرة فتية الشوارع الذين جعلوا المدرسة الرسمية محطة من محطات شقاوتهم اليومية وتبطلهم وشقائهم، بعدما لفظتهم المدارس وحطام حياتهم الأسرية والبيتية الفوضوية إلى الشوارع. ولأنني لم ألقَ جنزارة على باب المدرسة في الخامسة والنصف من مساء ذاك النهار، وافق سامر على أن أصطحبه معي في السيارة ليروي لي فصولًا من حياة زمرة الفتيان اليومية.

سامر يفقد لغته وذاكرته
ما أن صعد الفتى الشقي إلى السيارة حتى بدا عليه شيء من التهيّب في مسلكه وكلامه. وأخذ تهيّبه يتزايد ويتحول ارتباكًا كلما ابتعدنا من ضاحية بيروت الجنوبية. وسرعان ما فقد شيئًا فشيئًا طبعه الذي كنت أحسب أنه أصيل فيه وفُطر عليه، ويصعب العثور على سواه في سلوكه. فها هو يسألني قلقًا مضطربًا وبنبرة مختلفة تمامًا عن نبرته السابقة: أين نحن، وإلى أين تأخذني؟ وكان عليّ أن أهدّئ من روعه وخوفه، كلما ابتعدت بنا السيارة عن الأماكن التي يعرفها. وبعد خروجنا من نفق سليم سلام، تهيأ لي أن خوفه بلغ حدّ الضياع، وفقد شعوره بالأمن، كسمكة أُخرجت فجأة من مائها. ألم تأتِ إلى هنا من قبل؟ سألته، فأخذ ينظر محدقًا في الأماكن، ويلتهم ببصره المشاهد المسرعة على جانبي الشارع. هذا هو وسط بيروت التجاري الجديد، هل تعرفه؟ قلت له، فأجابني في صوت مختنق: لا.. لا.. لقد شاهدته في التلفزيون. وحين خرجنا من السيارة في شارع الحمراء، لم يبقَ شيء من سامر الذي عرفته على بوابة المدرسة. صار فتىً لا يدري كيف يمشي ويتكلم، ولا إلى أين ينظر، كأنه فقد ذاكرته. وفي مقهى جلسنا فيه، جلس مضطربًا مرتبكًا ومنقبض الجسم والأطراف على حافة الكرسي، حائرًا أين يضع يديه. ولما قلت له أن يشرب العصير من كوب طلبته له، وجِلًا أمسك الكوب عن طاولة أمامه، كأنه يخشى أن ينفلت فجأة من يده ويتحطم على الأرض. وكان عليّ أن أبذل جهدًا مضاعفًا لأحمله على الكلام. وكلما سألته سؤالًا عن حياته وأهله، وصار ينظر إليّ مستريبًا حائرًا ماذا يقول، ليس عن تكتّم - فكرتُ - بل لشعوره بأنه فقد لغته. وأنا تهيأ لي كما لو أنني أعتدي عليه باخراجه من لغته وجسمه ونفسه وعالمه الأليف. ثم فكرت للحظة خاطفة أن ما يشعر به الآن، يشبه شعور الفتاة التي كانت كلماتُهُ المشاكسة البذيئة تشعرُها بالعري والمهانة، فيما هي تمر في الشارع أمام بوابة المدرسة قبل أيام.

وبعد أيام من اصطحابي سامرًا في رحلتنا الغريبة، استدعاني المحقق - المفتش "التربوي" مجددًا لاستكمال التحقيق معي، فأدهشني أنه على علم بقصتي مع سامر. كان غاضبًا ومحتقنًا من قولي في المدرسة - وقد نقلتْهُ إليه مديرتها على ألارجح - إن زمرة فتية الشوارع الذين يئس رجال قوى الأمن الداخلي من منعهم عن الوقوف أمام بوابة المدرسة، يفقدون شقاوتهم وشراستهم وعنفهم ويصيرون فتية مسالمين وخائفين، ما أن يبتعدون يخرجون من بيئتهم الأليفة التي نشأوا  فيها على الشقاوة والعنف. لكن المفتش "التربوي" رأى في قولي هذا تخريبًا جديدًا لـ"السلم الاهلي" الميمون، وتشويهًا جديدًا لصورة المنطقة الأهلية التي جرت فيها الحادثة العائلية وأدت إلى سقوط قتيل وإحراق بعض البيوت.

(يتبع)

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها