الجمعة 2022/05/27

آخر تحديث: 11:12 (بيروت)

فتيان الشقاء والعنف بمجتمع العمران العشوائي: تأريخ دامٍ للخراب

الجمعة 2022/05/27
فتيان الشقاء والعنف بمجتمع العمران العشوائي: تأريخ دامٍ للخراب
أولاد الخراب في "حرش القتيل" (مصطفى جمال الدين)
increase حجم الخط decrease
انتهت الانتخابات وانتهى انصرافُنا إليها وغرقُنا في شؤونها. وها نعود إلى تفاصيل حياتنا التي انصرفنا عنها في أرجاء هذه البلاد.

كانت مادة هذا التحقيق الأساسية قد جُمعت قبل 20 سنة، لكن الظاهرة التي يتقصاها ويتناولها لا تزال حيّة على حالها في يومياتنا الراهنة، بل تتناسل وتتسع وتتزايد: زمر من فتيان الشوارع، تسيُّبهم وعنفهم اليومي في أحياء العمران والاجتماع العشوائيين في ضاحية بيروت الجنوبية، وسواها من أحياء بيروت والمدن اللبنانية. والفتيان أولئك الذين يروي هذا التحقيق مقتطفات من وقائع حياتهم، صاروا اليوم بين الثلاثين والأربعين من أعمارهم. ولما زرتُ قبل أيام الحي الذي تعرفت إليهم فيه، علمت أن بعضهم تزوج وغادر إلى بلدات جنوبية. وواحد منهم قتل في سوريا قبل سنوات. وآخر اختفى أثره، وقال أحد عارفيه إنه ربما هاجر بحرًا في زورق من زوارق الغرق والموت. واثنان أو ثلاثة منهم انتقلوا من الحي، بعدما انتموا إلى حركة أمل وحزب الله.  

سامر وزمرته
تعرّفت إلى سامر سنة 2002، عندما كان مع زمرة فتية من مجايليه بين 14 و16 سنة من أعمارهم يُكثِرون الوقوف على ناصية شارع أمام بوابة مدرسة رسمية، كنتُ أدرِّس فيها بضاحية بيروت الجنوبية. كانوا يتنقلون متبطلين هائمين في بعض شوارعها، ويقيم أهلهم في حيّين من أحياء العمران العشوائي الناشئة فيها عشيات الحروب الأهلية بلبنان (1975 - 1990) وفي أثنائها وبعدها: حي فرحات وحرش القتيل المتصلين والمتداخلين على طرفها الشمالي الغربي في نطاق منطقة الغبيري البلدي. ويتصل الحيّان الشيعيّان بمخيمي شاتيلا وصبرا للاجئين الفلسطينيين، ويجمع بينها كلها نشأتُها أثناء حروب وانتفاضات مسلحة ومقاتل أهلية وهجرات بواعثها كثيرة ومتنافرة، يختلط فيها، منذ العام 1948، المحلي اللبناني والملبنن، بالإقليمي الفلسطيني والسوري. لكن حادثتين كبريين حولتا المخيمين الفلسطينيين إلى خرائب:

- اجتياح الجيش الإسرائيلي بيروت واحتلالها وترحيله مقاتلي منظمة التحرير الفلسطينية وقيادتها منها صيف 1982، ورعايته ما اشتهر بـ"مجزرة صبرا وشاتيلا" المروعة. تتراوح إحصاءات قتلاها الفلسطينيين واللبنانيين بين 750-3500 من رجال ونساء وأطفال أُعدموا رميًا بالرصاص ليلًا، بعد اغتيال بشير الجميل قائد ميليشيا القوات اللبنانية المسيحية، عقب انتخابه رئيسًا للجمهورية في 23 آب 1982. واتهم بارتكاب المقتلة جهاز الأمن والمعلومات في ميليشيا القوات إياها يقوده إيلي حبيقة، وجيش لبنان الجنوبي المرابط بإمرة الجيش الإسرائيلي في الشريط الحدودي الجنوبي المحتل منذ سنة 1976.

- حروب ما سميت "حرب المخيمات" (1985 - 1988) ومقاتلها. بادرت إليها منظمة أو حركة أمل الشيعية برعاية نظام الأسد السوري، للقضاء على بقايا فلسطينيين تسلحوا وتخندقوا في مخيمي صبرا وشاتيلا وسواهما من مخيمات الفلسطينيين بلبنان، تحت لواء منظمة فتح بقيادة ياسر عرفات وأركانه المرحَّلين من بيروت إلى تونس والمقيمين فيها. وكانت تلك الحرب حلقة في سلسلة طويلة من الصراعات الدموية بين الأسد وعرفات للسيطرة على مناطق لبنان الأسلامية. ومنذ التسعينات تحولت خرائبُ المخيمين البيروتيين مأوى أخلاطٍ من عمال وعاملات أجانب من سيرلانكا وبنغلادش وأثيوبيا.. إلى جانب سوريين فروا من الترويع والقتل في ديارهم أثناء الثورة السورية على نظام الأسد بعد العام 2011.

على باب مدرسة المجتمع العشوائي
عندما التقيت سامرًا، كانت قد مضت أقله سنة على انقطاع معظم فتيان تلك الزمرة عن متابعة تحصيلهم التعليمي في مدارس رسمية أو خاصة شبه مجانية، قريبة من مساكن أهلهم. بعضهم زاول أو كان لا يزال يزاول موقتًا وعلى نحو متقطع، أعمالًا لا تحتاج إلى إعداد وتأهيل مسبقين. آخرون منهم لم يزاولوا عملًا أو مهنة قط، وانساقوا إلى تسكع وحياة يومية متسيِّبة وشقيَّة في شوارع وأحياء غير بعيدة كثيرًا من أحياء سكن أهلهم، وانضووا في زمر قائمة أو أنشأوا زمرًا جمعتهم.

زمرة سامر أدمن فتيتها (بين 8 و14 فتىً) اللقاء والتجمع بين الساعة الثالثة والخامسة والنصف بعد ظهر كل يوم أمام بوابة المدرسة الرسمية المتوسطة المختلطة (دوام بعد الظهر) في محلة الغبيري. وهذه واحدة من محطات تسكعهم الشقيِّ اليومي. أما تلامذة هذه المدرسة (نحو 600 تلميذ وتلميذة) فأكثر من 60 في المئة منهم يقيم أهلهم في حي فرحات وحرش القتيل وغيرهما من أحياء مماثلة، كالجناح والأوزاعي وبئر حسن وشاتيلا، المبنية مساكنها عشوائيًا على أملاك خاصة أو عامة صودرت واحتلت. وهذه وسواها من أمثالها هي أحياء ضواحي الضاحية الجنوبية التي نشأت وتضخمت في زمن الحرب وبعدها في التسعينات من القرن العشرين، عقب إخلاء خرائب وسط مدينة بيروت وسواه من أحيائها من المهجرين "المحتلين". وشأن فتيان الزمرة، تصدر الأغلبية الساحقة من تلاميذة المدرسة الرسمية عن بيئة أهلية شيعية، من سماتها الأساسية التهجير والبناء العشوائي الفوضوي الناشئ في الحروب. والأحياء هذه معاقل جمهور حركة أمل وحزب الله بعدها ومقاتليهما. وعلى واحدة من لافتاتها الكثيرة المنصوبة بين السفارة الكويتية وما كان يسمى مستديرة المطار قبل الحرب ونشوء مجتمعات التهجير الكثيفة في الضاحية الجنوبية، كتبت أمل أنها وُلدت "من أبٍ بقاعي وأم جنوبية".

اتخذ سامر وزمرته من التجمع أمام بوابة المدرسة محطة يومية لأنشطتهم الشقية العنيفة لأسباب شتى: قبل تخليهم عن التعلُّم كان لهم فيها أتراب وأشباه يشاطرونهم السكن في حي فرحات وحرش القتيل. وشطر من أترابهم القدامى يسيرون مثلهم على طريق الرسوب المدرسي، تمهيداً لانقطاعهم عن التحصيل الدراسي، واكتمال تسيّبهم وشقاوتهم وانضمامهم إلى زمر الفتيان القائمة، أو التئامهم في زمر جديدة مماثلة. فسامر وزمرته تعارفوا وتحولوا فتية شوارع أشقياء في مطالع مراهقتهم، عندما كانوا بعدُ على مقاعد الدراسة في بدايات المرحلة المتوسطة. واتخاذهم بوابة المدرسة الرسمية في الغبيري محطةً لشقاوتهم اليومية، إمارة على صلتهم السابقة بالبيئة المدرسية التي انسلخوا عنها، وعلى نزوعهم إلى مشاكسة تلميذاتها المقيم بعضهن في الأحياء التي يقيم فيها فتيان الزمرة الراغبين في استعراض فتوتهم أمام أنظار الفتيات التلميذات. فيتشاجرون ويتعاركون مع تلاميذ ينبرون إلى الذود عن زميلاتهم من فتيات المدرسة. ولسامر وزمرته موعدان اثنان في الشارع قرب مدخل المدرسة الضيق، والمقفلة بوابته الحديد التي يقف خلفها دائمًا حارس يفتحها للداخلين والخارجين من التلامذة والمدرسين. الموعد الأول لتلاقي الزمرة وتجمعها يبدأ بين الثانية والنصف والثالثة بعد الظهر، حين يخرج التلاميذ والتلميذات إلى الملعب في استراحة مدتها عشرون دقيقة تتوسط الدوام المدرسي اليومي بين الثانية عشرة و45 دقيقة ظهرًا والخامسة والنصف مساء.

تحرُّشٌ مسرحيّ عنيف
ما أن يبدأ فتية الزمرة بالتوافد تباعًا حتى يبدأ تصايحهم وتشاتمهم وصخبهم في الشارع أمام بوابة المدرسة المقابلة لملحمة يقلّ زبائنها بعد الظهر، وفي جوارها محال لأنواع من الخردة وبقايا أدوات معدنية صدئة محطمة، تُخزَّن أكوامها في محلين يجلس أمامهما على جانبي الشارع الخالي من الأرصفة، رجال وفتية يدخنون نراجيل بين سيارات متوقفة وعابرة. لا يبدو مشهد فتية الزمرة دخيلًا على المكان، بل يجانسه. فالصخب الذي يحدثه وقوفهم وتصايحهم  وتبادلهم الشتائم والكلمات والصرخات والحركات البذيئة الاستعراضية العنيفة شبه المسرحية، لا تثير استنكار أحد أو استياءه وتذمره. فما يحدث في الشارع الضيق بين المدرسة المهترئة البناء والوظيفة التعليمية والتربوية وبين البنايات السكنية المقابلة المقنّعة شرفاتها بستائر بلاستيكية، من طبيعة الحياة اليومية وبداهاتها العادية.

فجأة ينتقي واحد من فتية الزمرة عابرًا ما، يدرك بخبرته وسليقته وإدمانه العيش في الشارع، أنه قادر على استضعافه والنيل منه، فيتحرش به ويشاكسه، وغالبًا ما يكون سوريًا يدفع عربة خضار. والتحرش بالعابرين المستضعفين ومشاكستهم يفتعلان مشهدًا مسرحيًا يؤديه فتية الزمرة: يصرخ أحدهم من بعيد بزميله المتحرش، فيشتمه ويتوعده قائلاً له أن يترك الشخص العابر وشأنه. لكن صرخته الرادعة هذه، فيما هي تتقنع دور حماية ذاك الشخص، تتضمن أيضًا كلمات بذيئة تسخر منه وتهينه. فالفتى الذي يحاول ردع زميله المتحرش يصرخ قائلاً: تركو وليه، شو بدّك فيه، ما لقيت غير هالخرا التعبان تبلّ إيدك فيه؟! فيجيبه المتحرش صارخا: ك... أختو وأخت اللي بيشد ع مشدو، ويهم بضرب الشخص العابر. وفي هذه اللحظة يهجم بعض من فتية الزمرة على زميلهم المتحرش، فيما يتدخل آخرون منهم لتهدئة غضب المهاجمين. ولا يكتمل المشهد إلا بتناول واحد من فتية الزمرة جنزيرًا معدنيًا صدئًا أو قضيب حديد من مخزن الكسر القريب، ويروح يلوّح به راكضًا نحو أقرانه المتحلقين حول الشخص الغريب الخائف والحائر ماذا يفعل وسط الزمرة التي يحاصره فتيانها مقهقهين صارخين.

أما إذا صادف أن مرت في الشارع فتاةٌ سافرة وفي ملبسها شيء من إثارة وفي مشيتها بعض من خفر أو خجل، فسرعان ما يطلقُ فتىً أو اثنان العنان لصرخات إعجاب وكلمات استهجان بذيئة، إن لم تجفل الفتاة العابرة وتروّعها، فإنها تتركها في حالٍ من الشعور بالعري والمهانة وسط الشارع وأمام عيون المارة والرجال والفتيان المستأنسين بكركرات نراجيلهم على جانبي الطريق.

سأم رجال الأمن واستنكافهم
تحدث مثل هذه المشاهد قبل خروج تلامذة المدرسة وتلميذاتها من قاعات التدريس فيها إلى ملعبها في وقت الاستراحة، لتبدأ مشاهد أخرى أثناءها وتختلف حوادثها من نهار إلى آخر، وغالبًا ما يكون مسرحها سور المدرسة وملعبها وبوابته. لا يقوى الحارس البوّاب على منع بعض التلاميذة المشاغبين الأشداء من الخروج إلى الشارع، للقاء زمرة الفتيان الأشقياء الذين يدخل بعضهم إلى الملعب، رغم إرادة الحارس. فهذا وسواه من نُظار المدرسة ومعلميها لا يقوون على منعهم. وهم يدركون جميعًا أن لا إجراء يمكن أن يُصلح ما أفسده الدهر والإهمال. يتمكن الحارس أحيانًا من التترس بجسمه خلف البوابة وإبقائها مقفلة، فيتسلق بعض فتية الزمرة سور المدرسة ويقفزون إلى ملعبها. يحدث هرج ومرج في الملعب، سرعان ما يتطور إلى عراك بين الفتية "الغرباء" وبعض التلامذة. وفي مرات كثيرة لم يتوقف العراك إلا بعد استدعاء رجال الأمن الداخلي من مخفر الغبيري القريب. وهؤلاء يقتصر عملهم على أداء دور شبه مسرحي: يتراكضون في الملعب بين جموع التلامذة المتراكضين صارخين، فيما ينسل فتيان الزمرة هاربين. لكن تكرار مديرة المدرسة استدعاء رجال أمن المخفر، حملهم على الاستنكاف عن الحضور إلى المدرسة سئمين من تكرار ذاك المشهد.

الموعد الثاني لحضور سامر وزمرته وتجمُّعهم قرب المدرسة، يبدأ في الساعة الخامسة بعد الظهر ويستمر حتى الخامسة و45 دقيقة، منتظرين خروج التلاميذ والتلميذات وانصرافهم إلى بيوتهم في الخامسة والنصف. نحو 600 تلميذ وتلميذة يخرجون متلاصقي الأجسام متصارخين وبعضهم متضاربين في تدافعهم الخانق من بوابة ضيقة لا تتسع لخروج أكثر من تلميذ واحد في اللحظة الواحدة. فتية الزمرة يقفون على ناصية الشارع ينتظرون تلميذات ليشاكسونهن، أو تلاميذ ليطاردونهم ويضربونهم وسط ازدحام سيارات يتعذر سيرها في الشارع الضيق المختنق بمئات أجسام التلاميذ والتلميذات المتحاشرين للخروج من البوابة، والمتراصة أجسامهم وأجسامهن في الشارع. المشهد مقلِق، بل مخيف لشدة ما يبث شعورًا بانعدام الأمن الجسماني، وسط تحاشر هذه الأجسام الصاخبة المتوترة. وقد تنبعث منها قسوة وعنف يطلقهما في أي لحظة فتية الزمرة وشلل من التلاميذ في عراكهم وسط الحشد البشري الكبير. ويستطيع المُشاهِد بسهولة أن يحدس أو يتخيل أن المتزاحمين في هذا الحشد في الشارع الضيق، لا تقل حياتهم في بيوتهم وأزقة أحيائهم العشوائية كما في مدرستهم عن مشهدهم هذا صخبًا وفوضى وازدحامًا وعنفًا قابلًا  للانفجار. وهو انفجر مرات كثيرة، ما دامت طاقته وليدة الحشد، كامنة فيه وتلابسه ملابسة حميمة  في الشارع الضيق.
(يتبع)

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها