الخميس 2022/04/28

آخر تحديث: 11:53 (بيروت)

أيام بيروتية قديمة: مغاوير ريمون إدة.. وثورة المسيحيين المضادّة

الخميس 2022/04/28
أيام بيروتية قديمة: مغاوير ريمون إدة.. وثورة المسيحيين المضادّة
صائب سلام وبيار الجميّل (Getty)
increase حجم الخط decrease
في معرض استعادته محطات من سيرة حياته، روي العميد الراحل مختار عيتاني (1918- 2015) وقائع وحوادث وحكايات تستعيد صورها ومشاهدها ولغتها شبه "الفولكلورية" عادات وتقاليد ومناخات اجتماعية ولغوية بيروتية، تعود إلى أوقات وأزمنة متباعدة تستغرق القرن العشرين المنصرم. وتأتي روايتها هنا تمرينًا على كتابة لصيقة بلغة راويها الشفوية.

فمختار عيتاني كان يمتلك ذائقة الحكواتي وموهبته الفنية، فتتدفق الأخبار طازجةً على لسانه بلغة زمنها القديم فيما هو يرويها عن الاجتماع الأهلي والعائلي البيروتي وحوادثه، وعن صلة مجتمع الأهل والعائلات ومراتبه بالإدارة والوظيفة العامة. وبعد حلقة أولى وثانية من رواياته، هنا حلقة ثالثة.

قائد الثوار يفاوض
وكان أن انتهت ثورة 1958 على الرئيس كميل شمعون الذي انتهت ولايته، وانتُخب قائد الجيش اللبناني فؤاد شهاب رئيسًا للجمهورية. وبدأ البحث عن إيجاد حلول ومخارج لأوضاعنا، نحن الفارين أو المنشقين من الأسلاك العسكرية والملتحقين بالثورة وزعمائها من الأقطاب السياسيين الذين تفاهموا مع الرئيس فؤاد شهاب على حلّ قضيتنا.

المقدم عزيز الأحدب، الذي فصله الرئيس فؤاد شهاب من الجيش اللبناني وعيّنه قائدًا لشرطة بيروت، جاء لزيارة الرئيس صائب سلام في دارته في المصيطبة القريبة من محلة البسطة التي سُميت آنذاك "جبل النار" المشتعل بالثورة والثوار، قبل خموده. كان صائب بيك زعيم الثورة في بيروت، فطلب من الأحدب التفاهم معي، أنا من كنت قائد المنشقين العسكريين الملتحقين بالثورة، وأمضيت أيامها متنقلًا بين ثكنتي العسكرية الثورية في مدرسة قرب دار الفتوى في عائشة بكار، ودارة صائب بيك لتلقي تعليماته والحصول على المرتبات المالية للمتمردين والثوار. في البداية رفضت مقابلة المقدم الأحدب. لكنني استجبت أخيرًا طلب صائب بيك الذي استدعاني إلى دارته. ما أن رآني المقدم الأحدب أدخلُ الصالون حتى بادرني قائلًا: شايف حالك عليّ يا مختار، وترفض اللقاء بي؟! فلنضع صداقتنا وعلاقتنا الشخصية جانبًا قبل البدء في التفاوض، قلت له، ثم أضفت أنني مشغول بالثورة، وليس لدي من الوقت متسع لأضيعه في المماحكة، ما دمنا على خصام وخلاف: واحدنا قائد تمرد وثورة شعبية، والآخر يمثل السلطة الرسمية. لكن المقدم الأحدب تصرف كأنه لم يسمع ما قلت، وطلب مني أن أجمع الشباب الذين تمردوا على أسلاكهم العسكرية والتحقوا بي، تمهيدًا لالتحاقهم بمركز قيادة شرطة بيروت في ساحة البرج. كيف يمكن أن أقود عصابة مسلحة وأنزل بها إلى قيادة الشرطة؟! أجبتُ مفاوضي، فقال لي: لا عليك، لا عليك، إن الأمور مدبّرة ومتفق عليها سلفًا. فالفارون جميعًا سوف يُعاد إلحاقهم بسلك قوى الأمن الداخلي والشرطة، وغير الراغبين في ذلك يُترك لهم الخيار بين تسريحهم من السلك العسكري أو الالتحاق بالشرطة البلدية.

عصابة الثورة الخامدة
بعد أيام قليلة جمعت العسكريين المتمردين في ثكنة الثورة الخامدة، ومجردين من السلاح نظمتهم صفوفًا أربعة في الشارع أمام الثكنة-المدرسة، وهيأتهم للسير إلى ساحة البرج. كان عددهم حوالى 70 رجلًا، مرتدين ثيابًا مهلهلة يختلط فيها الزي العسكري بالمدني. وهذه كانت حالهم طوال أيام الثورة، بدوا بعد أيامها المجيدة أشبه بعصابة خائفة منزوعة السلاح. وفي مشية عسكرية فوضوية تقدمتهم وسرت بهم في شوارع أحياء بيروت، فيما الناس يتفرجون علينا من شرفات بيوتهم. ووصلنا إلى محلة "عسور"، فساحة رياض الصلح. كان مشهدنا فرجة للعابرين. وفي ساحة البرج، أمام السرايا الصغيرة -وهي كانت مقرًا للبنك العثماني، قبل تحولها مقرًا لمديرية الشرطة أيام الانتداب الفرنسي، وخلفها سوق البغاء المسمى السوق العمومي- أوقفت رجال الثورة الخامدة، صارخًا بهم في نبرة عسكرية: مكانك قف، تأهب، استرح. وتركتهم واقفين وسط الشارع ثم صعدت وحدي درج المديرية، فأثار مشهدهم هذا ضباط الشرطة وعناصرها وأغضبهم. أعني المسيحيين منهم، أولئك الذين حدستُ أن لسان حالهم يقول، خلف نظراتهم الغاضبة: ماذا جاء يفعل هؤلاء الأوباش الذين كانوا يقاتلوننا في الأمس ويطلقون النار علينا؟!

قد أكون أسأتُ التصرف في ما فعلت، حين سرت على ذاك النحو الاستفزازي في مقدم عصابتي الثورية المتمردة وأوقفت عناصرها، هكذا، أمام مديرية الشرطة القريبة من صيدلية الشيخ بيار الجميّل، زعيم حزب الكتائب اللبنانية المعادية لانتفاضتنا الناصرية على الدولة اللبنانية، وقام وحزبه بثورة مسيحية مضادة ضد التسوية التي عقدها الرئيس فؤاد شهاب مع زعماء الثورة من السياسيين المسلمين.

في المديرية استقبلني الضابط المسؤول، فقال لي إن عليّ أن أقود رجالي غدًا إلى ثكنة الأمير بشير في منطقة الأوزاعي. وهناك يتكفل الكولونيل سمعان بتسوية أوضاعنا. كيف يتكفل الكولونيل تسوية أوضاع هذه العصابة التي تمردت على الأوامر العسكرية والتحقت بثورة شعبية؟! فكرت، وأي حل يمكن أن يعيدهم إلى سلك الشرطة ويدمجهم فيه، بعدما خرجوا منه وعليه وأطلقوا النار على عناصره؟!

مغاوير ريمون إده
لاحقًا علمت أن العميد ريمون إده -وزير الداخلية في حكومة الأربعة التي شُكلت برئاسة رشيد كرامي بعد الثورة المسيحية المضادة- هو الذي اجترح فكرة الحل، قائلًا: دود الخل منه وفيه. ولا يغلبُ زعران الشوارع الذين قاموا بالعصيان والثورة في الأحياء البيروتية ويكسر شوكتهم، إلا أولئك العسكريون الذين تمردوا والتحقوا بهم. فالعسكريون المتمردون من أهل تلك الشوارع وأعرف العارفين بشؤونها وزعرانها وقبضاياتها، ووحدهم في مستطاعهم ترويض العتاة من فتوات الأحياء المتمردين، وتحطيم رؤوسهم، إذا سلّطنا هؤلاء العسكريين عليهم.

طبعًا لم يكن العميد ريمون إده -وهو خريج معاهد الجيزويت وجامعتهم للحقوق الفرنسية اللغة- ضليعًا في اللغة العربية كي يصوغ فكرته على هذا النحو، أو يقول إن سندها قول الشاعر العربي: وداوني بالتي كانت هي الداء. فالعميد لم يكن يجيد القراءة ولا الكتابة بالعربية التي يتكلم محكيتها الدارجة فقط. ولما ذهبت إلى منزله في الصنائع بناء على طلبه، استقبلني في الصالون بقميص "بروتيل" تبرز من تحته عظام جسمه الناتئة، وعلى عينيه نظارتين سميكتي الزجاج. وقال لي: شوف عيتاني، أنا وزير الداخلية، وأنت سوف تعمل لحسابي وبأمرتي. تأتي إلى بيتي هنا، باكرًا كل صباح، فنجتمع معًا وحدنا، وتقرأ لي التقرير الأمني اليومي. وتتلقى مني التعليمات لتقوم بتنفيذها في بيروت، على رأس قوة أمنية من رجالك.

وسألني العميد: شو رأيك عيتاني نسمي هذه القوة المغاوير أو الفوة الضاربة؟ ثم تحدث عن مهماتها الأساسية: ضبط الأمن في بيروت بيد من حديد، مهما كلفها الأمر. مطاردة الزعران والمخلين بالنظام العام. قطع دابر البلطجية والزعران وفتوات الأحياء. وكذلك فارضي الخوة على الكابريهات والملاهي الليلية في الزيتونة والسوق العمومية خلف مديرية الشرطة. وإزالة مخلفات الثورة والتعدي على الأملاك العامة والخاصة، وكل مظهر آخر يخلُّ بالأمن والقوانين العامة النافذة.

حين علمت من العميد إده أن هذه القوة الضاربة ستكون عصابتي الثورية نواتها، قلت له: نحن الذين خالطنا فتوات الثورة وزعرانها في الشوارع، لا هيبة لنا بين الناس، ويصعب فرض القانون وسلطتنا عليهم، بعد الذي كان وحصل أثناء الثورة. لكن العميد كان مصرًا على فكرته، فقال في نبرته السريعة المتدافقة والحاسمة: أنتم الذين ستفرضون الأمن في بيروت، وسوف أتكل عليكم، عيتاني، ولا يهمك شي.. الله معك عيتاني، وغدًا صباحًا أنتظرك في بيتي لنبحث الأمر.

قبل أن أغادر اقترحت على العميد أن يكون لباس مغاوير القوة الضاربة مميزًا عن غيره من ألبسة القوى الأمنية، كي يرسخ في أذهان الناس أنها فرقة تقوم بمهام استثنائية في حفظ الأمن وفرضه بالشدة التي تنزل الرعب في القلوب. أعجبت الفكرة العميد، فقال إنه سوف يتدبر أمر لباس الفرقة بنفسه، ويصرف على تجهيزها من الأموال الخاصة في وزارة الداخلية، تسهيلًا لبدئها العمل وتسريعه، بعيدًا من الروتين الإداري والحكومي.

نسر يحتضن الأرزة 
فرقة المغاوير التي أُنيط بها حفظ الأمن وفرضه بشدة وقوة لا هوادة فيهما في مدينة بيروت الإدارية بعد ثورة 1958، تشكلت نواتها إذًا من المتمردين على أوامر الأسلاك العسكرية الحكومية: جنود في الجيش، عسكريون في قوى الأمن الداخلي، عناصر في الشرطة الجمركية. وهؤلاء فروا من الخدمة والتحقوا بالثوار الناصريين في الأحياء البيروتية. وكان العميد ريمون إده، وزير داخلية الحكومة الرباعية عقب الثورة، عراب تشكيل هذه الفرقة وراعيها. لكن تسميتها فرقة المغاوير أثارت استنكار الجمهور المسيحي اللبناني وسخطه بزعامة الشيخ بيار الجميل، رئيس الكتائب اللبنانية، والرئيس كميل شمعون الذي ثار الشارع الإسلامي الناصري وزعماؤه ضد عهده في الشهور الأخيرة من ولايته الدستورية.

فكلمة المغاوير محمّلة في الذهنية المسيحية اللبنانية العامة، برجعٍ وأصداء ناصرية وسورية وبذيول الانتفاضة الناصرية على الدولة والقانون اللبنانيين وسلطاتهما في الشارع الإسلامي. وهي، أي الكلمة إياها، استعملت إبان حوادث 1958 في معرض الكلام على مجموعات من مسلحين متسللين من سوريا إلى لبنان، لنصرة الثوار ومساعدتهم وتزويدهم السلاح، بل قيادتهم والقيام بالإغارة على المراكز العسكرية والأمنية اللبنانية. ثم إن عبارة جهاز أو فرقة المغاوير، كانت غريبة آنذاك عن القاموس أو المصطلح اللبناني العسكري والأمني، ومحفوفة بأصداء الأنظمة العسكرية الانقلابية العربية التي تنشئ للمغاوير فرقًا وأجهزة متسلطة لحماية تلك الأنظمة. وما زاد من غضب المسيحيين اللبنانيين أن شعار فرقة المغاوير كان نسرًا يحتضن الأرزة. فالنسر هو رمز القومية العربية وجمهوريتها المتحدة في مصر وسوريا، والتي فتنت ألباب فئات واسعة من المسلمين اللبنانيين ودفعتهم إلى الثورة على الجمهورية اللبنانية، وآزرتهم في تمردهم عليها.

كانت الفرقة اللبنانية الجديدة في بدايات إنشائها وتشكيلها، حين قام المسيحيون بما سُمي الثورة المضادة اعتراضًا على حكومة الرئيس رشيد كرامي الأولى عقب ثورة 1958، فاستقالت هذه وتشكلت بعدها الحكومة الرباعية. ومن جملة ما اعترضت عليه الثورة المسيحية المضادة تسمية الفرقة الأمنية الجديدة. ولتغيير تسميتها وإبدالها وإبدال شعارها، أي النسر محتضنا الأرزة، سأل الشيخ بيار الجميل: ما هو الرقم الهاتفي الذي يطلبه المواطنون للاتصال بهذه الفرقة لطلب النجدة منها؟ وحين قيل للشيخ بيار إن الرقم هو 16، قال: فلنسمها الفرقة 16 إذًا، فكان له ما أراد، ووضع هذا الإسم على القبعات الحمر التي يعتمرها رجال الفرقة 16 الشهيرة في الستينات والسبعينات، قبل نشوب الحرب الأهلية سنة 1975.
(يتبع حلقة أخيرة)

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها