السبت 2022/04/23

آخر تحديث: 13:34 (بيروت)

أيامٌ بيروتية قديمة: شيخٌ يشتهي الحليب..أرمنٌ وطوائفُ حِرَفٍ وفرنسيون

السبت 2022/04/23
أيامٌ بيروتية قديمة: شيخٌ يشتهي الحليب..أرمنٌ وطوائفُ حِرَفٍ وفرنسيون
في مطلع الأربعينات خفت حِداد المسلمين البيارتة على رحيل السلطنة العثمانية وولاية بيروت (Getty)
increase حجم الخط decrease
في معرض استعادته محطات من سيرة حياته، روى العميد الراحل مختار عيتاني (1918 - 2015) وقائع وحوادث وحكايات تستعيد صورها ومشاهدها ولغتها شبه "الفولكلورية عادات وتقاليد ومناخات اجتماعية ولغوية بيروتية، تعود إلى أوقات وأزمنة متباعدة تستغرق القرن العشرين المنصرم. وتأتي روايتها هنا تمرينًا على كتابة لصيقة بلغة راويها الشفوية.

فمختار عيتاني (أبو رياض، كما كان يحب أن يدعى) يمتلك ذائقة الحكواتي وموهبته الفنية، فتتدفق الأخبار طازجةً على لسانه بلغة زمنها القديم، فيما هو يرويها عن الحِرف والاجتماع الأهلي والعائلي البيروتي وحوادثه، وعن صلة مجتمع الأهل والعائلات ومراتبه بالادارة والوظيفة العامة. وعيتاني بدأ حياته الوظيفية كوميسيرًا في شرطة بيروت أيام الانتداب الفرنسي. وصار ضابطًا برتب مرموقة في سلك قوى الأمن الداخلي. وعاش حوادث 1958 الأهلية الدامية وكان مؤثرًا فيها. وأسس في بيروت قوة التدخل السريع المعروفة بـ"الفرقة 16"، بالتعاون مع وزير الداخلية ريمون إدة بعد تلك الحوادث. وكان المرافق الأمني لرئيس الحكومة الراحل صائب سلام.

هنا ما رواه مختار عيتاني سنة 2009، مضافةٌ إليه حواشٍ طفيفة قد تساعد في وصل الحوادث والحكايات بزمنها الاجتماعي.

سوق الصريماتية والأرمن
يوم مولدي في بيروت سنة 1918، كان أبي، ابن عائلة العيتاني البيروتية الكبيرة، في رحلة إلى أضنا التركية. ذهب إلى تلك الديار البعيدة من مدينته، ليحصِّل ديونًا له في ذمم زبائنه هناك، بعدما وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها. فهو كان صاحب كار أو حرفة في أسواق بيروت: صريماتي، أي صانع أحذية أو شدّات أو صرامي، في سوق الصريماتية بلغة ذاك الزمان. وكان لكل أصحاب صنعة أو مهنة أو حرفة أو كار - خياطين، نحاسين، حدادين، نجارين، لحامين، عطارين، وسواهم من طوائف الحرف وأهلها - سوقٌ يعمل فيه كثيرون من أهالي بيروت وعائلاتها وسواهم من الوافدين إليها، عندما كانت المدينة عاصمة ولاية عثمانية منذ سنة 1888. وفي محله أو محترفه، كان والدي معلمًا في كاره: يقيس أقدام زبائنه ليصنع لهم أحذية يفصّل جلدها ونعلها على الطلب، ويتركها لشغيلة محترفه يخيطونها ويمسمِرونها، أي يشدون النعلَ بالمسامير إلى الجلد. واحد من أولئك الشغيلة كان من برج البراجنة، واسمه علي منصور، وآخر من مدينة حمص اسمه راشد، فسُمِّي راشد الحمصي. وبعض زبائنه كانوا من بلاد كثيرة، تجارًا وأهل صنائع ومهن ينزلون أيامًا في خانات بيروت ولوكنداتها، ويعودون إلى ديارهم. فازدهرت بيروت وتوسع نشاطها التجاري، وتكاثرت جاليات الأجانب فيها، قناصلهم وبعثاتهم التبشيرية الدينية المسيحية والتعليمية الأوروبية والأميركية في القرن التاسع، كانا قد جعلاها عاصمة ولاية تمتد من يافا إلى اللاذقية على الساحل السوري. ومثل كل حرفة في أسواقها، كان للصريماتية في سوقهم طائفة خاصة وشيخ يشرف على الحرفة. ولا أعلم كيف آلت مشيختها إلى خالي سعد الدين شهاب. وسوى والدي من الصريماتية البيارتة، أذكر الحاج محي الدين الكستي والحاج أمين الأسمر.

وكانت رياح التغيير والتحديث قد هبت قوية على بيروت قبل أكثر من قرن على انهيار السلطنة العثمانية في الحرب العالمية الأولى (1914 - 1918). وتضاعفَ هبوب تلك الرياح مع بداية الانتداب الفرنسي على سوريا ولبنان، فصدّعت نظام طوائف الحرف، أصنافها وهيئاتها وتقاليدها السائرة في الأسواق، فأخرجتها عن رسومها المعهودة، ولم يعد الأبناء يتوارثون هذه الحرفة أو تلك عن آبائهم وأجدادهم. وأصاب التصدّع مراتب الحرف شبه المغلقة، التي كان يتصدرها مشايخ الكارات، وتتصل بالطرق الصوفية. ومع ملابسة التحديث أحوالَ المعاش والاجتماع والعمران والصناعات والتجارات والأهواء والمراتب في بيروت، صارت الحرفُ توصف بالتقليدية القديمة، بعدما أصاب الانهيارُ والأفولُ نظامهَا المتوارث في الأسواق. وهي ظلت قائمة، لكن عارية من ذلك النظام وأسلاكه ومشايخ كاراته وفتوّاته، ومن اتصالها بالطرق الصوفية وتكاياها التي ضمرت بدورها وبدأت تنضب.

هكذا أفل اسم حرفة الصريماتية واسم سوقها، فصارا نسيًا منسيًا، إلا في ذاكرة بعض المعمرين وكتبة التأريخ الاجتماعي. وظهرت تسمية الكندرجي لصانع ومصلح الأحذية في السوق، بعد مضى وقت على نزوح الأرمن إلى بيروت ولبنان، فرارًا من المجازر والمقاتل التي أنزلها بهم الأتراك في ديارهم، فشاركوا مشاركة قوية، بل أساسية، في تحديث الحرف والمهن والصنائع في أسواق بيروت، بالتزامن مع انهيار نظامها المتوارث. وكان للأرمن حضورهم الكبير والفاعل في سوق الصريماتية القديم، فحدّثوا المهنة فيه باستيرادهم الجلودَ والآلات والنعال من إيطاليا لصناعة الأحذية الماهرين فيها، إضافة إلى استيرادها جاهزة، فصار السوق يسمى سوق الإفرنج أو سوق الأرمن للأحذية.

الكتّاب القرآني والحليب
في طفولتي وصباي أمضيت سنوات أتعلم في واحدة من الكتاتيب القرآنية البيروتية، قبل أن أصير طالبا في كلية المقاصد الاسلامية سنة 1936. في كتّاب الشيخ ياسين الذي نالت عصيّه وقضباته من جلدي، حفظت القرآن الكريم غيبًا. وحتى اليوم لا أزال أتذكر ما سمعت طه حسين يقوله عن الكتاتيب القرآنية في أحد برامج إذاعات ذلك الزمان: الكتاتيب تصلح للأولاد في كل العصور. فهي تقوِّم ألسنتهم في نطقهم لغة الضاد. والولد الذي يقرأ القرآن جهارًا بصوته ويغيّب سوره، يَحْسُن لفظه. وإن لم يفهم معاني ما يقرأ، فبعدما يكبر ويشب يتبحّر في معاني ما قرأ وحفظ، ويفهمها، ويكون مَلَكَ نطقا سليمًا.

كان كتّاب الشيخ ياسين قريبًا من بيتنا على رأس الطلعة في طرف محلة عائشة بكار، خلف منزل الرئيس سليم الحص اليوم. وفي كتّابه كان الشيخ ياسين يعتمر طاقية بيضاء اللون، ويلبس ما كان يسمى الشركس الذي كان يرتديه مشايخ الكتاتيب. وإلى تحفيظنا القرآن بتلك القسوة التي لا تشوبها رأفة علينا نحن الأولاد، كان الشيخ قوّال مواويل بيروتية. وهي لون من الوان الفنون الشعبية التراثية في بيروت، مقابل فن الزجل المعروف والشائع في جبل لبنان. ثم إنه كان يغني مواويله ويحفّظنا إياها، عازفًا على العود في كتّابه.

وشدة ولع الشيخ ياسين بالحليب، ورغبته في الحصول عليه مجانًا من بقرات آل فرشوخ، التي كانت ترعى في أرض لهم قرب الكتّاب وبيتنا، حملاه على تأليف موال يمتدح فيه حليب بقرات العائلة البيروتية. وهو لحَّن الموال على عوده ودربنا على حفظه وغنائه. وكلما هَفَتْ نفسُ الشيخ وشهيّته إلى مذاق الحليب، كان يكف عن تحفيظنا سور القرآن، لننشد موال شهيته. وكان ذلك الموال الملحن والمغنى يقول:
إجا الشتي (جاء الشتاء) وطاب لبس الصوف.
يا ناس اشتروا الحليب من بقرات بيت فرشوخ.
حليبُ بقراتهم طيب، كلامهم هيّب بيت فرشوخ.
اسمع يا سيد شو قال (ماذا قال) فرشوخ.

وبعد زمن طويل، عندما دخل جهاز التلفزيون إلى كل بيت في بيروت الستينات، وشاع إعلان "البقرة الضاحكة" La vache qui rie وأجبان حليبها، ونشيدها على الشاشة، تذكرت أن الشيخ ياسين في كتّابه، كان معلنًا فذًا لبقرات آل فرشوخ وحليبها. وهو كان يحصِّل يوميًا ومجانًا حاجته من الحليب "على ظهورنا". أي يستعملنا كورسًا نحن أولاد كتّابه لموّاله الإعلاني أو الدعائي الذي ألّفه ولحّنه وحملنا على إنشاده، كلما طوّحت به شهوته إلى حليب البقرات المجاورات الطازخ.

الإدارة والمكانات العائلية
بين العام 1936 والعام 1940 كنت طالبًا في كلية المقاصد الإسلامية. وفي 29 كانون الأول 1940 بدأت رحلة دخولي في سلك شرطة بيروت الذي قررت سلطات الانتداب الفرنسي تجديده وتطويره، بعدما كانت ورثته عن الإدارة العثمانية في نهايات عهدها. أما سلك الدرك، الذي سيصير لاحقًا جهاز أو سلك قوى الأمن الداخلي، فكان عمله ينحصر في جبل لبنان وحده، ولا حضور له في العاصمة اللبنانية الجديدة.

وشاع في بيئتنا البيروتية في تلك الأيام أن إدارة الانتداب عزمت على إدخال دم جديد وجيل جديد إلى سلك الشرطة، لتحديثه وتطعيمه بأبناء بلد بيارته متعلمين، مسيحيين ومسلمين. أنا من كنت في الثانية والعشرين من عمري آنذاك، ونجحت لتوي في امتحانات شهادة البروفيه الرسمية، أتذكرني سائرًا إلى جانب والدي والوجيه أحمد بيك الداعوق في ناحية من تلة الخياط، حينما سمعت أحمد بيك يقول لأبي: مدير الشرطة راشد بيك طبارة، يريد تعيين شبانٍ في سلك الشرطة. وفجأة نظر إليّ، وسأل والدي: لماذا لا تعطينا مختار لنرسله إلى معهد الشرطة، فيتخرج منه كوميسيرًا.

آنذاك، كان بعض كبار موظفي الجهاز الإداري في دولة الانتداب من أبناء عائلات بيروتية مرموقة ونافذة، وكانوا من قبل يتصدرون مراتب الإدارة في ولايات عثمانية. فأحمد بيك الداعوق كان مدير البريد المركزي. وصديقه راشد بيك طبارة مدير شرطة بيروت، كان قائمقام لواء اسكندرون أيام دولة بني عثمان. أما ضباط سلك الشرطة في ذلك الوقت من أيام الانتداب الفرنسي، فكانوا أيضًا من أبناء أصحاب المكانات والمناصب العائلية، مثل فؤاد حبيش، سليل عائلة من مرتبة المشايخ، وحمد بيك حيدر، وسليم بيك الدرويش، وصالح بيك الأسعد.

وكان يقال في تلك الأيام إن ابن العائلة المرموقة أو المتصدرة، سلطانٌ معزّز، لأنه صاحب سلطتين اثنتين في وقت واحد: المكانة أو الوجاهة العائلية، والسلطة الحكومية التي كانت غالبًا من نصيب أبناء تلك العائلات. هكذا كان يحدث دمجٌ وإدغام بين القوة والشوكة العائليتين في المجتمع الأهلي، وبين الحظوة والنفوذ اللذين توفرهما الوظيفة في الإدارة العامة والأسلاك الحكومية. لكن الوظيفة الإدارية والحكومية، مهما علا شأنها وعلت مرتبتها، لا تكفل وحدها لهذا الموظف أو ذاك الخطوة والنفوذ في المجتمع الأهلي، إلا إذا كان من أبناء العائلات. فكوميسير الشرطة، مثلا، لم يكن يستمد من السلك وحده القوة والهيبة لفرض "القانون" على الأهالي في هذه المحلة أو تلك من المدينة، بل هو يحتاج أيضًا إلى إن يكون سليل عائلة لها شوكتها في المحلة أو الحي أو الحارة.

والدليل أنني سمعت أحمد بيك الداعوق يقول لوالدي ليرغِّبُه في إدخالي إلى سلك الشرطة: عندما يصير ابنك مختار كوميسيرًا في الشرطة، هيهات أن يفكر أي من أبناء العائلات والعوام من الفتوّات والقبضايات في الحارات البيروتية الوقوف في وجهه. فأنتم آل العيتاني عائلة كبرى يفوق عددكم العشرين ألف نسمة في المصيطبة ورأس بيروت وغيرهما من نواحي المدينة. صمت والدي ولم يجب في شيء. فسأله أحمد بيك: كم يبلغ طول مختار؟ فقال له والدي إنه لا يعلم، فما كان من أحمد بيك إلا أن قال: خُذْ قياسه، قِسْهُ.

لا أدري بما كان والدي يفكر صامتًا، أثناء سيرنا قرب رمول تلة الخياط التي كانت خالية من العمران المحدث بعدُ تقريبًا، متجهين إلى بيتنا في عائشة بكار. ربما جالت في رأسه أفكار كثيرة. منها مقاطعة فئات واسعة من البيارتة والمسلمين عامةً في لبنان التعامل مع دولة لبنان الكبير الانتدابية الفرنسية منذ بدايات نشوئها، وعزوف كثيرين، بل تحريمهم الانخراط في وظائفها. وذلك حدادًا منهم على زوال ولاية بيروت والسلطنة العثمانية، وعلى سلخ مدينهم عن سوريا والعالم الإسلامي الإمبرطوري. وهما عزوفٌ وحداد كانا ينبعثان من خوفهم على هويتهم الدينية والثقافية واللغوية، القلقة والحائرة أصلًا وفصلًا في أي دائرة من دوائر الجغرافيا السياسية الجديدة الوليدة يمكنها أن تجد ضالتَها ومستقرَها وتتحقق في كيان سياسي في العالم الجديد، عالم ما بعد الحرب العالمية الأولى وزوال الإمبراطورية العثمانية.

لكن حداد المسلمين البيارتة على رحيل الإمراطورية والولاية، وعزوفهم واستنكافهم عن الانخراط في وظائف دولة الانتداب الفرنسي، كانت قد خفتت مطلع الأربعينات، أي في عشيات إقبال زعيمهم رياض بك الصلح على المشاركة الفاعلة في صوغ ما سمي الميثاق الوطني اللبناني المشترك بين المسلمين والمسيحيين.

وبعدما وصلنا إلى منزلنا أحضر أبي خيطًا ومسطرة وقاس طولي، عازمًا على أن أتقدم إلى اختبار معهد الشرطة، لأتخرج منه كوميسيرًا. كنت شابًا طويلًا آنذاك، وليس كحالي اليوم وأنا أتجاوز التسعين من عمري مسرعًا،  بعدما قصّرت السنوات الكثيرة من طولي وهدّت جسمي. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها