الثلاثاء 2022/04/26

آخر تحديث: 12:09 (بيروت)

أيام بيروتية قديمة: سياسيو السِّيقان العارية بصالوناتهم.. وثوار 1958

الثلاثاء 2022/04/26
أيام بيروتية قديمة: سياسيو السِّيقان العارية بصالوناتهم.. وثوار 1958
عرض عسكري لـ"ثوار" 1958 في أحياء بيروت الغربية (Getty)
increase حجم الخط decrease
في معرض استعادته محطات من سيرة حياته، روي العميد الراحل مختار عيتاني (1918 - 2015) وقائع وحوادث وحكايات تستعيد صورها ومشاهدها ولغتها شبه "الفولكلورية" عادات وتقاليد ومناخات اجتماعية ولغوية بيروتية، تعود إلى أوقات وأزمنة متباعدة تستغرق القرن العشرين المنصرم. وتأتي روايتها هنا تمرينًا على كتابة لصيقة بلغة راويها الشفوية.

فمختار عيتاني كان يمتلك ذائقة الحكواتي وموهبته الفنية، فتتدفق الأخبار طازجةً على لسانه بلغة زمنها القديم فيما هو يرويها عن الاجتماع الأهلي والعائلي البيروتي وحوادثه، وعن صلة مجتمع الأهل والعائلات ومراتبه بالإدارة والوظيفة العامة. وبعد حلقة أولى من رواياته (راجع "المدن")، هنا حلقة ثانية.

صفعتا الإدغام.. ومحاكمة
قبل تقدمي إلى امتحانات معهد شرطة بيروت في نهاية العام 1940، كنت طالبًا في كلية المقاصد الإسلامية البيروتية منذ العام 1936، وتخرجت منها في الثانية والعشرين من عمري حائزًا شهادة البروفيه الرسمية. أتذكر من حوادث حياتي المدرسية المقاصدية صفعتين متتاليتين هوتا على رقبتي من كفِّ مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ محمد توفيق خالد. كان المفتي يجولُ مستطلعًا حُسْنَ تحصيل طلاب الكلية لغتهم العربية، فدخل قاعة التدريس التي كنت فيها، فأختارني كي يختبرني في قراءة القرآن. قال لي أن أتلو سورة منه، فوقفتُ وأطلقت صوتي بإحدى السور. ورغم تحصيلي لغةٍ عربية ممتازة لفظًا جرّاء حفظي القرآن غيبًا وتلاوته جهارًا في كتّاب الشيخ ياسين قرب بيتنا في محلة عائشة بكّار، ومتابعتي تحسينها وإجادتها في المقاصد، لفظتُ حرفَ الحاء في عبارة "قومُ نوحٍ وقومُ لوطٍ" القرآنية مُنوّنةً بكسرتين، ساهيًا عن ابتلاع التنوين لأنه متبوعٌ بحرف العطف "واو" الذي لفَظْتُهُ خطأً مفتوحًا بدل لفظِه ساكنًا أو خطفًا، حسبما يفتضي الإدغامُ في العربية. لذا هوت كفُ المفتي بالصفعتين على رقبتي قائلًا: ادغم يا ولد، ادغم.

وكان أن نجحت في امتحان معهد الشرطة وتخرجت منه كوميسيرًا في السلك، إلى جانب محمود مكي وحسن جاهد ومصطفى كنفاني وسواهم من البيارتة. فطعّموا بنا جهاز شرطة بيروت وأمدوه بدم جديد من أبناء العائلات البيروتية. حصل ذلك بتدخل من مدير الشرطة راشد بيك طباره وإشرافه. وهو من كان أقنع والدي بأن أدخل ذاك السلك بعد حيازتي شهادة البروفيه. فإدارة الانتداب الفرنسي آنذاك كانت تعتمد على أبناء الطائفة المارونية في الأسلاك الإدارية والعسكرية اللبنانية، وتمنحهم حظوة لا تتوافر لغيرهم من أبناء الطوائف الأخرى. فيروح الموظفون الإداريون والعسكريون الموارنة يسلكون ويتصرفون كأنهم أبناء "الست" أي فرنسا، أمهم الحنون، على ما كان وظل يقال في لبنان. والحق أن المسلمين كانوا قلةً في الوظائف الرسمية الانتدابية، بسبب امتناع أكثريتهم عن الانخراط فيها ومقاطعتها، رفضًا منهم لدولة لبنان الكبير، وحِدادًا على سلخ بيروت عن سوريا وضمها إلى الدولة تلك منذ 1920.

بعد مدة قصيرة من انتسابي إلى معهد الشرطة في بيروت، استدعيتُ وكثيرين سواي من طلابه المسلمين إلى المحاكمة بتهمة مشاركتنا -حينما كنا طلابًا مقاصديين بعدُ- في تظاهرة صاخبة سارت في شوارع بيروت، ودعا إليها عروبيون ثورجيون احتجاجًا على وعد بلفور الصهاينة اليهود بوطن قومي في فلسطين. اعتُقلت بين متظاهرين كثيرين آنذاك، وأطلق سراحنا، تمهيدًا لمحاكمتنا التي أزفّ موعدها بعد دخولي معهد الشرطة. المدعي العام العسكري الذي حاكمني كان مسيحيًا، ومارونيًا ربما. وأصدر حكمه بتبرئتي فورًا، بلا محاكمة تقريبًا، وقال: ما مضى قد مضى. وكونك صرتَ طالبًا في المعهد يَجُبُّ ما فعلتَه سابقًا ويطويه، ويفتح في حياتك صفحة جديدة. وحتى الساعة لا أزال ممتنًا لذلك الرجل الشهم الذي كان في مستطاعه، لو أراد، أن يصدر حكمًا بإقصائي من المعهد، وتدمير مستقبلي.

مع صائب بيك سلام
حين تعرفت مطالع الخمسينات إلى صائب بيك سلام، كانت أكثر من سنوات عشر قد مضت على تخرجي كوميسيرًا من معهد شرطة بيروت، وصرت ضابطًا في السلك، وكان لبنان قد تحرر من الانتداب الفرنسي واستقل عنه. وكنت آمر سرية الشرطة على طريق الشام، حينما استدعيتُ إلى مقر المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي، فزودني مديرها العام جواز سفرٍ خاص وبطاقة سفر إلى المملكة العربية السعودية، على أن أحملهما وأذهب إلى مقابلة وزير الداخلية صائب بيك سلام في دارته بمحلة المصيطبة، كي يوضح لي مهمتي. ومذّاك صرت الضابط المسؤول عن سرية أمن صائب بيك، نائبًا ووزيرًا ورئيس حكومة.

كانت عائلة سلام البيروتية صغيرة لا يتجاوز عدد أبنائها رجالًا عشرة، أو "زلم" في لغة ذلك الوقت. ودارة صائب بيك في المصيطبة كانت تجاوره بيوت كثيرين من أبناء عائلتي الكبيرة، آل عيتاني. ومنهم هاشم وخالد وصبحي وعبد الغني (أبو رباح)، الذين كانوا قبضايات و"مشكلجية" (أصحاب مشاكل) ويُحسب لهم حساب كبير في المحلة وسواها من الأحياء البيروتية، وتابعين لصائب بيك ومن جماعته وعزوته. وهم الذين اقترحوا عليه أن أكون الضابط المرافق له في رحلته المرتقبة إلى المملكة العربية السعودية، بصفته وزير الداخلية في حكومة الرئيس عبدالله اليافي آنذاك. لما وصلت إلى دارته، كان صائب بيك يغط في قيلولته المعتادة، فقالوا لي أن أنتظره حتى يستيقظ.

أجلسوني في الصالون، وجلبوا لي فنجانًا من القهوة وكوب ماء. بعد قليل من الوقت رأيت صائب يدخل إلى الصالون. كان يرتدي "برنس" أو "روب دو شومبر"، وتظهر من فتحته الأمامية ساقاه عاريتين. لاحقًا -طوال أمرتي رجال قوى الأمن الداخلي من مرافقي صائب سلام حين يكون في منصب حكومي- اكتشفت من مخالطتي رجال السياسة والحكم ودخولي بيوتهم، أن معظمهم لا يلبسون أثناء نومهم بيجامات، بل ينامون عراة الأجسام إلا من "السليب" الصغير. وهذه كانت حال الزعيم العشائري الزغرتاوي سليمان بيك فرنجيه الذي رأيته عاري الساقين مرتديًا الروب دو شومبر أثناء استقباله في صالونه بعض ضيوفه الأخصّاء.

وفي لقائي الأول ذاك بصائب بيك في صالون دارته، أبلغني أنه اختارني لمرافقته في زيارته السعودية، مكلفًا من رئيس الحكومة عبدالله اليافي مقابلة الملك سعود بن عبد العزيز، ومفاوضته لتحسين حصة لبنان من عائدات مرور أنابيب نفط شركة التابلين في أرضه. وأشد ما أتذكره من رحلتي تلك إلى المملكة، رائحةٌ نفاذة كانت تلفح أنفي كلما اقتربت من الملك. 

أهل الهوى الناصري
حين بدأت ثورة 1958 الأهلية الإسلامية الدامية في لبنان على الرئيس كميل نمر شمعون في نهاية عهده، كنت ضابطًا ناصري الهوى في شرطة بيروت، وكلي حماسة في ميلي إلى عروبة الزعيم والرئيس المصري جمال عبد الناصر، أبو خالد رئيس الجمهورية العربية المتحدة، مصر وسوريا. فبعد انقلابه مع الضباط الأحرار وثورتهم في مصر سنة 1952، ثم بعد حرب السويس سنة 1956، أحدث عبد الناصر بخطبه الحماسية الملتهبة وصوته الساحر عبر الأثير الإذاعي، زلزالًا في مشرق العرب ومغربهم. ومن آثار ذاك الزلزال أن الملوك والرؤساء العرب جميعًا، أخذوا يهابون عبد الناصر، يخافونه ويغارون منه غيرة تملأ قلوبهم بمزيج من الضغينة والحسرات والحسد. كان خوفهم منه يدفعهم إلى التظاهر بأنهم يحبونه، محاباة منهم لسطوته على شعوب بلدانهم. لكنهم في طواياهم كانوا يكرهونه كراهية مريرة حتى الموت. ذاك أن تعلّقَ ملايين العرب وولعهم بصورته وإطلالاته الخطابية الساحرة، أشعرَا ملوك العرب ورؤساءهم بأنه يفقدهم زعامتهم وولاء الناس لهم في بلدانهم. وهذا ما أدى بالرئيس التونسي الحبيب بورقيبة إلى أن يصاب بشيء من الجنون حين كان يرى التونسيين ويسمعهم يهتفون: ناصر، ناصر، ناصر. فراح يخاطب أهل بلده في غضب يقنّع حقده بالسخرية، قائلًا لهم: ناصر، ناصر.. إيش هذا ناصر ومين ناصر؟!

في لبنان اشتعل الهوى الناصري في قلوب فئات واسعة من المسلمين وصدورهم، ضد سياسة رئيس بلدهم كميل شمعون، وشخصه. وفي عشيات ثورة 1958 وغداتها، رحنا نحن المسلمين في سلك شرطة بيروت نختصم ونتشاجر مع زملائنا المسيحيين، أولئك الذين كانوا ينفرون من عبد الناصر ويكرهونه. كنت آنذاك ضابطًا برتبة نقيب. وفي واحدة من مشاجراتنا مع زملائنا المسيحيين في مركز خدمتنا العسكرية، علا صراخنا واشتد، وكدنا نتضارب، فقررتُ الالتحاق بالثورة والتمرد على الدولة اللبنانية. وقد شجعني على ذلك أن صائب سلام كان من زعماء الثورة، وأقاربي القبضايات في المصيطبة من زلمه وقادة الثوار في بيروت.

ثكنة دار الفتوى
كان مركز خدمتي في السرايا الصغيرة، مركز مديرية شرطة بيروت العامة في ساحة البرج، وقدتُ عشرة من رجالي في السلك حاملين أسلحتهم، ونفذت قراري الذي كنت اتفقت عليه مع زميلين من الضباط، هما محمد شهاب الدين وعبد الكريم حمد اللذين أقدما متأخرين عني في الالتحاق بالثائرين في محلتي البسطة والمصيطبة، برعاية صائب سلام وزعامته، بعد إعلانه التمرد على رئاسة كميل شمعون، وتحول المحلتين البيروتيتين عاصيتين، ومن معاقل الثوار المغلقة في العاصمة اللبنانية.

بادرت قيادة شرطة بيروت والقضاء العسكري إلى إصدار مذكرة توقيف عسكرية في حقنا، نحن المتمردين والفارين من سلك الشرطة، والملتحقين بالثوار. وطالبت المذكرة بملاحقتنا والقبض علينا ومحاكمتنا، تمهيدًا لإعدامنا. قرب مقر دار الفتوى الإسلامية بمحلة عائشة بكار البيروتية، أسست ثكنة عسكرية في مبنى مدرسة، ودعوت المتمردين الفارين من أسلاك الجيش والشرطة والجمارك اللبنانية إلى الالتحاق بأمرتي في الثكنة الجديدة. بعد 18 سنة، أي في بدايات الحروب الأهلية سنة 1975، أقدم الملازم أحمد الخطيب على فعل ما فعلته تمامًا، لكن على نطاق أوسع بكثير: انشق عن الجيش اللبناني، وتمرد مع مجموعة من الضباط والعسكريين على قيادته، وأسس سنة 1976 ما سمي جيش لبنان العربي الذي التحق بقيادة الثورة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية بزعامة ياسر عرفات وكمال جنبلاط.

أنا ومجموعتي في ثكنتي، ثكنة الثورة، القريبة من دار الفتوى، صرنا نواة المتمردين الثوار الفارين من أسلاكهم العسكرية اللبنانية، ونواة الثورة الشعبية الموالية لعبد الناصر في أحياء بيروت الغربية. فتجمّع في أمرتي أكثر من سبعين رجلاً من العسكريين الفارين، وأكثر منهم من شبان الأحياء البيروتية الإسلامية وفتواتها وقبضاياتها الثائرين، فيما كان فاروق شهاب الدين من البارزين في قيادة ثوار المصيطبة والبسطة التي سُميت جبل النار وشكلتا القاعدة الشعبية والأهلية لزعامة صائب سلام.

من النشاطات الاستعراضية التي أطلقتها لأبعث حمية الثورة والتمرد في صدور الأهالي، نظمت عروضًا عسكرية لرجالي في الأحياء القريبة من الثكنة. وإلى الثوار المسلحين شارك في العرض شبان وفتيان وفتيات من غير المسلحين. أما فرقة كشافة الجراح الموسيقية فسيّرتها في مقدم العرض، وأطلق عازفوها العنان لضرب طبولهم وصنوجهم ودفوفهم، ولآلات النفخ النحاسية. ولا أدري إن كان العرض قد أطرب الرئيس صائب بيك سلام الذي أطل من شرفة دارته وحيّا الثوار. وكان يقف إلى جانبه شقيقه مصباح سلام الذي كان يُسمى قائد الثورة.
(يتبع)

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها