الجمعة 2020/07/10

آخر تحديث: 15:39 (بيروت)

"زراعة المقاومة" تفلس المزارعين.. تعمم البؤس

الجمعة 2020/07/10
"زراعة المقاومة" تفلس المزارعين.. تعمم البؤس
"المقاومة الزراعية" دعوة للبؤس وكراهية الحياة (لوسي بارسخيان)
increase حجم الخط decrease
في تكاثر دعوات اللبنانيين للعودة إلى الأرض، ثمة نزعة بشرية دعائية تتركز على "الصراع من أجل البقاء" في ما قاله فولتير" IL FAULT CULTIVER SON JARDIN. والمقصود هنا عدم الاكتفاء بزراعة الحدائق، بل أن تكون الزراعة وسيلتنا للابتعاد من الزمان الراهن، والتلاحم مع الطبيعة وخالقها.

الزراعة علاج نفسي؟
وهكذا تصبح العودة إلى الأرض، والاحتفاليات والطقوس التي تصاحبها، نوعاً من علاج نفسي، يحتاجه اللبنانيون – فيما هم يلهجون، جادين أو ساخرين، بضرورة الإقبال على زراعة الأسطح والشرفات والحدائق البيتية المهملة، والأراض البائرة المهجورة - لمواجهة الضغوط ومآسيهم اليومية المتفاقمة، جراء الإفلاس والركود والبطالة والنهب، وحجز أموالهم في المصارف.

لا شك أن الزراعة البيتية في مثل هذه الحالات تخفف من المصاريف اليومية، ليس في ما تنتجه هذه الزراعة فحسب، وهو شحيح واكتفائي، بل للتسلية وصرف الوقت والجهد والإقلاع عن فقاعة الاستهلاك التي غرق فيها اللبنانيون مديداً. هذا مهم طبعاً في زمن بات كل شيء عبئاً ثقيلاً على الميزانيات المتهالكة.

زراعة حربية!
ولكن أن تترافق هذه الدعوات، مع قرع طبول الحرب، وتصوير الزراعة هذه مع الحرب على أنهما نوع من "الصمود والكفاح"، من شأنه مفاقمة القلق وإطفاء موسيقى الفرح في العلاج النفسي المفترض أنه يبعث الرغبة في العودة إلى الأرض. وهذا يفاقم ما يستعد له اللبنانيون من مساوئ ومخاوف من الجوع، كما لم يخبروا ويتذوقوا منذ الحرب العالمية الأولى، فترجموا قلقهم ومخاوفهم الراهنة تهافتاً هستيرياً على التمون بالمواد الغذائية.

هنا لا يعود مفيداً الحديث عن الزراعة وممارستها، حتى بوصفها "فولكلوراً قروياً". لذا لا بد من العودة إلى بعض الوقائع التي تؤكد أن تبسيط الأمور، قد توقعنا بمآزق أكثر وطأة على اقتصادنا من مأزقنا الحالي.

فإدارة الفقر تحتاج إلى استراتيجيات ملائمة، وإلى وسائل وأشخاص مسؤولين. وفي "زراعة الفقير" لا تكفي الخطابات الجماهيرية لينمو الإنتاج ويتكاثر.

فإرساء قواعد "مجتمع زراعي مقاوم أو محارب"، لا يجوز من دون العبور في المصارف أولاً، واستعادة ولو جزء من الودائع "المنهوبة". فليس كل لبناني يملك أرضاً. وضمان أرض مكلف. وقد تزيد أسعار الأراضي مع التهافت عليها لشرائها بغية الزراعة. إلا إذا كان المقصود تعميم حال الفوضى التي تنشأ في الحروب ليصبح "وضع اليد" هو القاعدة.

القمح والبطاطا
ولذلك سابقة في بلدة القاع البقاعية، التي يحاول أهلها استعادة أراضيهم المستولى عليها في زمن الفوضى.

وقد لا يحتاج "المزارع البدائي" الذي يحاولون إيقاظه في كل فرد منا، لمعدات متطورة، خصوصاً أن استخدام تلك المعدات المعقدة، وفقا للمهندس كميل حبيقة، المتخصص بتصنيع الآليات الزراعية وبيعها، مرتبط بمساحات الأراضي. وطالما أننا نتحدث عن عودة بدائية إلى الزراعة، فإن ذلك ممكن بمعدات بدائية من رفش ومنكوش ومعول. وهنا أيضاً لا بد من العمل على تكثير الحمير مجدداً، تجنباً للتهافت عليها في السوق السوداء.

انتهينا من تحضير الأرض وآن أوان نثر البذار. ولكن مهلاً... هل تعرفون بأن معظم المزارعين لم يزرعوا البندورة هذا العام بسبب ارتفاع ثمن بذاره المؤصلة المستوردة من الخارج؟ في دراسة أجراها المهندس بشار برو لكلفة زراعة البندورة هذا الموسم، تبين أن الكيلو في السهل سيصل ثمنه إلى ثلاثة آلاف ليرة، وبالتالي لم تعد زراعته تجدي اقتصادياً للمزارع.

وقد يعتقد البعض أن ذلك يجب أن يكون حافزاً إضافياً لنتوجه إلى الزراعة البيتية. ولكن ما فاتنا طيلة سنوات ما بعد الحرب الأهلية، أن لبنان لا ينتج أي نوع من أنواع البذار المؤصلة، ولا حتى بذار البطاطا التي تجتاح زراعتها معظم أراضي سهلي البقاع وعكار. وحده بذار القمح والشعير ينتج محلياً. لكن كمياتهما المنتجة لا تكفي حاجتنا للاستهلاك المحلي. فحاجة لبنان تصل إلى 600 ألف طن من القمح، ومع تكاثر اللجوء السوري إلى لبنان ازداد الطلب بكمية 300 ألف طن.

أما إذا كان البعض يجد أن زراعة القمح مفيدة، لأنه قوت يومي للفقير، فلا بد من التذكير بحاجته إلى أراض زراعية شاسعة، ولا جدوى من زراعته في الحدائق.

الخلاصة: لا مفر من الاستيراد، والذي لا غنى عنه في تأمين الأسمدة والأدوية والمبيدات. وهذه كلها تحتاجها الزراعة لتكون "مقاومة"، وتستورد من الخارج بالدولار.

الري والمازوت والبذار
ومع الأرض نحتاج إلى الري. وإذا افترضنا أن نهر الليطاني الملوث سيبقى محظراً في الري الزراعي، لا بد من البحث عن مصادر أخرى. والمصدر الوحيد المتبقي هو الآبار التي يحتاج تشغيلها إلى محروقات باتت تتوفر يوماً وتختفي أياماً، ولا يعثر عليها المزارعون في معظم الأحيان سوى في السوق السوداء.

انطلاقا من هذا الواقع، يرى المزارعون أن "دعوة اللبنانيين إلى الزراعة كي لا يجوعوا"، غير منطقية. فكثرة من المزارعين قد ينقطعون عن الزراعة في الموسم المقبل. ذلك أن كلفة الانتاج من أدوية ممبيدات وبذار لم تؤمن تكاليفها هذه السنة، إلا بسعر السوق السوداء بالدولار. وهذا أوقع المزارعين وشركات الاستيراد في خسائر فادحة، وصلت الى حد إعلان بعضهم الإفلاس.



الخضر والفاكهة الكاسدة
ومن شروط "الكفاح بالزراعة"، تصريف الانتاج. فلبنان ينتج ما يفوق حاجته الاستهلاكية من معظم أنواع الخضر والفاكهة، وفقا لأهل المهنة. أما تصريف هذا الإنتاج في الخارج فيتنقل من أزمة إلى أخرى. وآخرها ما تعرضت له مواسم هذه السنة من عراقيل متفاقمة على حدود الأردن والسعودية، وفقا لنقيب أصحاب الشاحنات المبردة عمر العلي.

ويتخوف مزارعون مخضرمون من أن يفقدوا الأسواق التي أمنوها لإنتاجاتهم العالية الجودة، والتي بحملها تواقيعهم ظلت علامة فارقة بين شتى أنواع الانتاج ومضارباته في الخارج.

ووفقا للمزارع المخضرم كابي فازيليان "في هذه الأنواع من الزراعات تكمن فعلياً مقومات الكفاح والصمود". ففازيليان الذي أعطى اسمه لإنتاجه من الفاكهة، قال: "عندما نتحدث عن زراعات منافسة، يجب اللحاق بالتطور الحاصل عالمياً، سواء في أنواع المنتوجات أو جودتها. ولكن مع تراجع القدرات الشرائية للبنانيين، لا يمكن للإنتاج الزراعي السريع أن يلحق بغلاء كلفة الإنتاج". وهو يعطي مثالا على ذلك بأن كيلو الدراق في العام الماضي كان يباع بثلاثة آلاف ليرة، كانت كافية لتسديد تكاليف التسميد والري والعلاج بالأدوية، مع السعي لتحسين النوعية سنوياً. لم يتبدل السعر هذه السنة، لكن الثلاثة آلاف ليرة صارت توازي 30 سنتاً، وهنا تكمن معضلة الصمود الفعلية.

كراهية الحياة
إذا، لا تشكل الخطب الحماسية الطنانة لتحويل القطاع الأكثر إهمالا في زمن السلم، قطاعاً كفاحياً في زمن "محاربة الفقر"، سوى كلام فارغ وقرصاً من المهدئات أو أي عقار آخر لتهدئة الأعصاب. فما لم توضع سياسات زراعية تتطلع إلى نهضة اقتصادية تدر عملات صعبة، يظل الكلام كلاماً يعول عليه الطاقم الحاكم لتأجيل الانفجار.

وتشير الوقائع إلى أيام أكثر إيلاماً ينتظرها اللبنانيون، ليعيشوا في صراع للبقاء والنجاة من الجوع. وهذا ينهي تلك الميزات التي صنفت اللبناني من بين الشعوب المحبة للحياة. الدليل هو عدد المنتحرين أخيراً، تعبيراً منهم عن كراهية الحياة. 

فطبول الحرب المرافقة لدعوات "الجهاد الزراعي" أو الصناعي، لا تبشر بغير خاتمة لنمط حياة سقيمة، تلي زمن حياة الوفرة اللبناني الراحل. وخطب "التجييش الزراعي" تضاعف المخاوف من العجز حيال متطلبات الحياة الأساسية. من القلق على الصحة في ظل صرخة المستشفيات المتعالية من نقص المعدات والغلاء الفاحش في فواتير الإستشفاء، إلى الخوف من أن تتعطل السيارة والتجهيزات الكهربائية في المنازل، نظرا لتكاليف صيانتها الموجعة، وصولاً إلى العجز عن تأمين الحاجات اليومية. هذه الوقائع كلها تشير إلى أن الخطب الجهادية لا تشبع البطون الفارغة.

فوتت السلطات فرصة المقاومة بالإنتاج المحلي، عندما أهملت القطاعات المنتجة. بل تخلت عن مسؤوليتها لمبادرات فردية "بيّضت وجه لبنان"، ولكنها تتخبط اليوم وتتلاشى. فأصحاب هذه المبادرات مربكون فعلا. فتشجيع عامة الناس على الزراعة، وعلى تأمين كل بيت قوته اليومي، يطره سؤالاً منطقياً: أين سيبيع المزارعون محاصيلهم؟

يعتبر "أهل المهنة" أن استفاقة قوى السلطة على الزراعة "المجتمعية"، ضرب للهروب إلى الأمام، في بلد لا يملك رزنامة ولا خطة زراعية. فالخطب والطروحات هذه ليست سوى عوامل إضافية لحال الفوضى التي أدخلتنا بها السلطة الحاكمة نفسها.. لنزداد كراهية للحياة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها