الإثنين 2019/10/28

آخر تحديث: 00:01 (بيروت)

نبض الانتفاضة وموسيقاها.. حماسة الحشود وبهجتها

الإثنين 2019/10/28
نبض الانتفاضة وموسيقاها.. حماسة الحشود وبهجتها
كل يساهم على طريقته في موسيقى الثورة (مصطفى جمال الدين)
increase حجم الخط decrease
رافق حضور الموسيقى والأغاني الثورية، معظم ثورات العالم وحروبه. في السابق كانت ألة "البوق" الذي أثنى ميكافيللي في كتابه "فن الحرب"على فضائله، إذ كان بإمكانه أن يخترق ضجيج المعركة. وهناك سيمفونية بيتهوفن الخامسة التي استخدمتها دول الحلفاء رمزاً للمقاومة ضد الألمان في الحرب العالمية الثانية. وفي حرب فيتنام كان للموسيقى أثر في الحفاظ على الوحدة وتأجيج المشاعر.

لا تختلف الثورة البادئة في لبنان في 17 تشرين الأول عن معظم ثورات وانتفاضات العالم. فلهذه الثورة موسيقاها الخاصة، منها ما هو نابع تلقائياً من المتظاهرين، ومنها ما هو معدّ مسجّل.


موسيقى الشارع
ينهمك كرم ورفاقه منذ بداية الثورة اللبنانية المستمرة، بتجهيز عدّتهم لإشعال روح الحماسة في قلوب المنتفضين المشاركين في التظاهرات. هم مجموعة من هواة الموسيقى غير المحترفين الذين وجدوا في "الإيقاع" طريقةً خاصة للتعبير.

يجوبون الساحات لتحفيز الناس. الموسيقى عندهم تساهم في حشد الناس. لذلك غالباً ما يقصدون أماكن التظاهر غير المكتظة. أجوب معهم في الشوارع من مكان إلى آخرى. تخفت الهتافات من حناجر المتظاهرين، وتطلع أصوات إيقاعهم المرتجل. والحماسة مصدرها قرع الطناجر والآلات الأخرى التي ابتكروها، وجلّها من الأدوات المنزلية المصنوعة من الألمينيوم والحديد والتنك. وتجد من يعزف لحنه الخاص على مصباحٍ من حديد قديم، أو على صفيحة.
وهناك شابة اختارت القرع على آنية حديد مجوفة، تستخدم في مواد البناء. فعبثية الثورة وعفويتها تنعكس في عدم الالتزام بآلات موسيقية تقليدية. كل ما يصدر صوتاً هو مشروع آلة موسيقية يمكن استعمالها لإحداث إيقاع. هذا إضافة إلى بعض الآلات الموسيقية الشعبية المعروفة، مثل الطبلة والطبل والدف.

أجدني وسط حلقة من رقص. أجساد المتظاهرين تتمايل وكأنهم يستمعون إلى معزوفة من الرقص الشرقي. لكن العازفين لا يكتفون باستخدام أيديهم، بل أعضاء أجسامهم كلها، لانتاج الأصوات.

.. لإلغاء الطبقية
يقف كرم ضارب الطبل مباعداً رجليه. يميل تارةً إلى اليمين وتارةً إلى الشمال، وكأنه يقوم بحراثة الأرض. ضرورة حصوله على صوتٍ صادح، تستوجب منه تشغيل قوته العضلية كلها. يقول كرم: "الهدف أن يشعر الناس أنهم معنيون بالموسيقى التي نؤديها، ليتفاعلوا معها. لذا تجدين الجميع يصرخ بصوت واحد. ما نؤديه ارتجال. لا نعتلي المسارح لأننا في ثورة ضد الطبقية. لا نريد أناساً فوق وآخرين تحت. نحن مع الناس وبين الناس. وكل من يرغب القرع والعزف يأتي بشيئ ما من بيته. أي صوت يصدح يقلق السلطة ويخدم الهدف".

كرم الذي تعرض وفرقته للضرب المبرح في يوم التظاهر الأول من رجال مكافحة الشغب، يروي كيف تمسك بطبله طوال الليلة. كان الطبل يشحذ من عزيمتهم، فيما القنابل المسيلة للدموع تشتت شملهم. وعندما يعود لقرع الطبل يتجمهر الناس حوله: "صرخة الطبل نبض الثورات - يقول - لذا راحت القوى الأمنية تلاحقني. كان عنفهم يثير حماستي، فأضرب الطبل بعزم. أخيراً مزقوه بضرباتهم".
راني يقرع على صفيحة بهدف تجميع الناس: "القرع يفجر طاقتهم. وأي كان يستطيع القرع على الطنجرة".

مدرّس الأنتروبولوجيا في الجامعة اللبنانية، محب شانه ساز، يقول: "ما من جماعة تعيش بلا إيقاع. فلكي تلتحم الجماعة لا بد من ايقاع صوتي موسيقي". ويعتبر شانه ساز أن لكل مناسبة جماعية وعمل جماعي إيقاعه الخاص المختلف حسب ثقافة الناس. فلصيادي السمك إيقاعهم وكذلك الجيش. وللمناسبات طقوسها وأيقاعاتها، حزناً وفرحاً. والتظاهرات واحدة من المناسبات التي لا بد من ابتكار إيقاعاتها وموسيقاها الخاصة.

موسيقى الباعة
الأصوات في ساحات التظاهر في وسط بيروت، يشترك في إنتاجها الباعة مع المتظاهرين. أصوات بائعي الذرة والفول الذين يضربون بملاعق كبيرة على طناجر السلق. قرقعة النراجيل وطقطقة الفحم المشتعل. بائعو المياه. وقع أقدام المارة، وشوشاتهم وأصواتهم. ويتداخل هذا كله بالهتافات والتصفيق، فيخرج الإيقاع ويجمع حشود التظاهر.

وللموسيقى أهداف ترويجية أيضاً. تصدح الأغاني عالياً من عربة بائع العصير عدنان خضر، الذي يضع على عربته مكبراً للصوت، مستقطباً متظاهرين يتحلقون حول عربته، فيشتري بعضهم قرصاً مدمجاً من أغانيه الصادحة.

على بعد أمتار قليلة من بائع عصير، تقف سيارة مكشوفة تصدح منها الأغاني. تعتليها مجموعة من الشبان الذين يروحون يتمايلون على وقع أغانية ثورية. المسؤول عن السيارة علاء الحلبي، صاحب شركة لتنظيم مناسبات الفرح. عندما شارك في التظاهر، لاحظ وجود المعدات الصوتية في ساحتي رياض الصلح والشهداء، وغيابها عن الشارع الذي يربط بينهما. لذا بادر فردياً إلى جلب سيارته المكشوفة لبث روح لحماسة في المتظاهرين العابرين بين الساحتين. عن نوع الموسيقى، يشدّد الحلبي على ضرورة بث الأغاني الثورية. لكن لا بأس من بث موسيقى مغايرة من حين إلى آخر، بهدف الترفيه عن المتظاهرين.

رقص وغناء  
ثلاثة شبان يسرعون الخطى في اتجاه ساحة الشهداء. أسمع أحدهم يقول لرفيقيه: "اسرعوا، هونيك الجو أحلى". كلما اقتربنا من ساحة الشهداء، ازدادت الحشود. الأعلام اللبنانية ترفرف عالياً على أنغام أغنية "لبنان رح يرجع". على أطراف الساحة نصبت مسارح ثلاثة، مزودة بمعدات صوتية كبيرة وإضاءة باهرة. على واحد منها (شاحنة) يقف منسق الموسيقى، أو الـ"دي جي". مجموعة من الشبان يتمايلون بأجسادهم على وقع الأغاني. يتجمهر المتظاهرون حول المسرح - الشاحنة، يرقصون، يغنون، يرفعون قبضاتهم أو يلوحونها في الهواء على وقع الأغاني العاطفية الراقصة. إنه مهرجان موسيقي.

أحد المشاركين يقول إن هذه المظاهر انحرفت بالثورة عن مسارها، وأضعفت حماسة الشباب، خصوصاً أن القيمين على هذه المسارح باتوا يستضيفون مطربين ومغنين، يحضرون إلى الساحة لترويج أغانيهم. وقد استضافت الساحات في الأيام الماضية الفنانين سعد رمضان ووائل جسار وجاد خليفة ومحمد ديراني، فبات الاعتصام سهرة غنائية. مشارك آخر يعتبر أن هذه المظاهر والموسيقى مباحة، ما دامت تساهم في استمرار حضور الناس وجذبهم إلى الساحات.  ويقول كارلوس أبو مجاهد - أحد القيميين على واحد من المسارح - إن مجموعة "مقاومة مدنية" وعمادها حزب سبعة، هي من تقوم بتمويل التجهيزات كافة. ويعتبر أن هدف ما يقومون به هو الترفيه عن المتظاهرين، لئلا يصيبهم الملل.

في الطريق من ساحة الشهداء إلى ساحة رياض الصلح، تعبر مجموعات، لكل منها موسيقاها الخاصة. منهم من يضرب على الطبل، ومنهم من اختار الطبلة، وبعضهم يحمل الزمور. كل يساهم على طريقته في موسيقى الثورة.

هتافات وحلقات نقاش
كلما اقتربنا من ساحة رياض الصلح، خفتت أصوات الموسيقى الصاخبة. في هذه الساحة لا صوت يعلو على صوت الهتافات. تتخللها أصوات حلقات النقاش والتداول في شؤون الثورة والبلاد.

تعتبر ساندي شمعون، وهي مؤدية نشيد الثورة في حراك "طلعت ريحتكم" عام 2015. وبعد مرور ثمانية أيام على مشاركتها في التظاهرات، باتت أكثر اقتناعاً بحضور الموسيقى المتنوعة، وعدم حصرها بالأغاني الثورية، بهدف الترفيه عن المتظاهرين. شمعون التي لديها أسلوبها الخاص في الأداء الغنائي، تقول إن قلة بث الأغاني الثورية المتعارف عليها لفنانين، مثل مارسيل خليفة وجوليا وسواهما، مردّه إلى الفئة العمرية المشاركة، التي لم تعايش ولم تواكب هؤلاء المطربين. وهذه الفئة بات لديها فنانيها من نمط غنائي خاص.

واللافت حسب شمعون، أن أغاني جوليا بطرس التي طالما صدحت عالياً ضد الفساد والظلم والفقر، هي اليوم ممجوجة بسبب انتمائها الحزبي وزوجها وزير الدفاع في الحكومة اللبنانية.

ساحات التظاهر أنتجت أناشيدها وشعاراتها وأغانيها وشعاراتها، وخصوصاً موسيقى الراب وموسيقى الشارع. وكلها توحدت لهدفٍ واحدٍ: ثورة                               

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها