وكانت القرية نموذج "التخلف" و"الرجعية"، حيث تسود الزراعة وتربية الماشية. وهذا نمط عتيق متقادم في الحياة والانتاج، ظل سارياً رغم زواله فعلياً في معظم القرى اللبنانية.
ورتابة إيقاع الحياة القروية أدت في عقود خلت إلى مغادرة الفئة العمرية الشابة القرى، سعياً إلى الإقامة في المدينة بهدف تحصيل تعليم جامعي. وتحولت حياة القرية متحفاً للماضي الذي لا بأس من العودة إليه بين الحين والآخر.
كأنما الحياة القروية صارت عقدة أوديب الجيل الجديد. فهي الآباء المراد قتلهم، ليحظى الأبناء بسلامهم الداخلي.
استعادة التقاليد
أطاحت جائحة كورونا بكل هذه التصورات، فقلبت الصورة رأساً على عقب. فظهرت للجميع هشاشة منطقٍ استمر لعقود: أصبحت الحياة الريفية اليوم هي النجاة والخلاص. فالزراعة وتربية الماشية، على الرغم من قلتها، هي الأنماط الانتاجية الوحيدة التي لم تتأثر بالوباء، فيما توقف معظم القطاعات الاقتصادية الحديثة عن العمل. وقبل تفشي الوباء أطلق الانهيار المالي والاقتصادي والإفلاس في لبنان، دعوات محمومة للعودة إلى الزراعة والأرياف وحياة الاكتفاء الذاتي.
وها هي مواقع التواصل الاجتماعي تعج بصورٍ فوتوغرافية لعائلاتٍ وأفرادٍ يستعيدون نمط الحياة الريفية، بتقاليدها وعاداتها. وتنتشر هذه الصور على المنصات الإلكترونية ويتبادلها كثيرون بفخرٍ واعتزاز. فمنهم من يقوم بزراعة أرضه المهجورة البائرة. ومنهم من يتعلم صنع المأكولات التقليدية. ومنهم من يمارس رياضته الصباحية. صور تعج بالحياة والفرح والطمأنينة، على الرغم من الخوف الذي يلف العالم.
حجر فسيح
الحجر المنزلي في القرية أسهل وأمتع منه في المدينة. فلا يتشدد الأهالي الذين يتبادلون الثقة في ما بينهم، منفذين إجراءات تحذيرات الوقاية من الوباء. هندسة البيوت القروية الفسيحة المساحات وتكثر فيها السطيحات، تساعد على التواصل الاجتماعي، فيجلس الأهالي ساعة العصر في باحات منازلهم، حيث الشمس والهواء الطلق. ويعمد المارة إلى تخاطف زياراتٍ عابرة خالية من الملامسات، فيما يحافظ بعضهم على الاحتياطات اللازمة، فيرتدي الكمامات الواقية، ليكتفي آخرون بالمسافات الآمنة.
وكان من عادة أهل القرى قديماً ممارسة ما يسمونه "سوق (كزدورة) العصر"، بعد انتهائهم من الأعمال الوظيفية والمنزلية. استعاد العائدون إلى القرى هذه الطقس. فترى الشبان والفتيات، الرجال والنساء، يسيرون على الطرق العامة مجموعات متباعدة. وعاد ارتياد الحيز العام لمحبي ممارسة رياضة المشي أو الجري.
اللافت أن معظم العائلات التي قررت الانتقال للحجر في القرية، هم من الطبقة الوسطى أو الفقيرة. فالأزمة الاقتصادية لعبت دوراً بارزاً في استئناف العادات والتقليد المعيشية القديمة. فإحياء الأراضي البائرة يوفر احتياجات غذائية يومية أساسية، في ظل غلاء الأسعار. إضافة إلى احتمال الاستفادة من المعونات التي توزعها الأحزاب. ففي القرى يسهل ذلك، فتسجل البلديات أسماء العائلات للحصول على مساعدات الدولة المنتظر توزيعها.
في المقابل قلة قليلة من عائلات الطبقة الميسورة لجأت إلى القرى. فقد أخّر الطقس البارد الذي استمر في بدايات الربيع انتقالهم في انتظار حلول الدفء الربيعي. فالعائلات الميسورة تتمكن من البقاء في المدينة.
مراجعة ذاتية
لكن أهالي القرى كفوا عن ممارسة عادات وتقاليد قروية عدة بسبب الوباء: لا سهرات تجتمع على المساطب والشرفات الفسيحة أمام البيوت. وهي غالباً ما تضم عدداً من أبناء القرية الذين يتناقشون في أمور عدة. اليوم باتت هذه السهرات تقتصر على أفراد العائلة الواحدة. ولم تعد النسوة تتبادلن صحون الطعام.
لقد أعاد فيروس كورونا المجد للحياة الريفية. فرض حالاً من المراجعة الذاتية لخيارات ومعتقدات كثيرة. فرض الوباء نظامه الخاص، وإيقاع حياةٍ ربما يعتاده الناس ويحبونه فيستمرون فيه.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها