الأربعاء 2018/08/29

آخر تحديث: 01:45 (بيروت)

رائحة فرن أبوالياس تذكّر زحلة بـ"أيام البركة"

الأربعاء 2018/08/29
رائحة فرن أبوالياس تذكّر زحلة بـ"أيام البركة"
لا تزال العائلة تعمل في الفرن بالشغف نفسه
increase حجم الخط decrease

بعدما اختفت رائحة الخبز العربي من أحياء زحلة، التي كانت تضم أكثر من 60 فرناً، لا يزال الزحليون، خصوصاً سكان حي الميدان، يتذكرون هذه الرائحة، ولو مرة كل أسبوع، تنبعث من فرن أبو الياس، الصامد منذ نشأته في خمسينيات القرن الماضي، في مبنى ترابي، بعدما اشتراه أبو الياس في العام 1962 بمليون ونصف ليرة من صاحبه السابق وعمل على ادارته مع أفراد عائلته.

لا يحب الياس الذي استلم الفرن بعد وفاة والده أياً من أنواع الخبز التي تصنع آلياً. فكلها بالنسبة إليه تضاف إلى عجنتها كميات من السكر، كي تعطي إحدى طبقتيها لونه الأحمر، فيما يبقى قلب الرغيف غير ناضج، بسبب استخدام أفران غاز تبرد سريعاً. "نحن من جيل كبر على طعم الخبز الذي ينضج على الصخر، في فرن يحمَى لساعات على المازوت، ليحافظ على حرارته".

يبدو الياس، في المقابل، واقعياً بالنسبة لمستقبل مهنته. فهو لا ينفي أن واقع زحلة أصبح مخيفاً حالياً، بسبب خلوها من فرن ينتج الخبز اليومي، بحيث تحولت المدينة من منتج للخبز إلى مستهلك فحسب، مع كل ما يحمله ذلك من تبعات التبعية الغذائية. لكن، ذلك لا يعني أن الأفران التقلدية ستبقى كافية. إنما يرى أنها فقدت بريقها عندما سقطت من عادات الأسر عادة حمل ربطة من فرن الحي. فتبدلت وجهة ما تبقى من هذه الأفران ليتمايز كل منها بأنواع المعجنات التي ينتجها، من القربان إلى الخبز الافرنجي أو السمون، والمشاطيح التي ميزت فرن أبو الياس منذ نشأته حتى اليوم.

مع ذلك، يبدو فرن أبو الياس معانداً لزمن مأسسة "صناعة الخبز"، وصامداً بنفس الاسم الذي لم يشر إليه يوماً بلافتة، إنما عنوانه وجوه مألوفة لم يغب منها إلا وجه المؤسس أبو الياس، فيما تجد زوجته أم الياس بالطلة نفسها التي تنتظرها من ذلك الشباك الصغير الذي يشرف على الطريق العام في أسفل بيت ترابي، تتحدث مع الزبائن، تملأ الأكياس، ترد على الهاتف، وتتقاضى سعر الخبز. مهمة تقاعدية، تصر على متابعتها طالما أنها لا تزال تتمتع بالصحة، بعدما تشاركت في السابق أعباء المهنة، واضعة يدها بيد زوجها منذ كان أولادهما أطفالاً، إلى أن صار الياس بمهارة والده في انتاج الخبز، تساعده زوجته وشقيقته في مهمات تقطيع العجين ومده ونقله إلى الفرن والتي لا تزال كلها تتم يدوياً.

اشترى أبو الياس الفرن منذ العام 1962، بموجب عقد يحتفظ الياس بنسخ عنه. قبل ذلك تنقل بالعمل في أفران في سوريا والأردن، إلى أن قرر الاستقرار في لبنان مع بداية تأسيس عائلته. عمل بداية في فرني بو عيد وصليبا، ثم أسس فرنه الخاص.

كان أبو الياس أول من أدخل المشطاح إلى أنواع الخبز في زحلة، بعدما أحضر سره معه من الأردن. ورغب بالمشطاح كثيرون من أبناء البقاع وكانوا يقصدونه من كل القرى حتى عرف بالمشطاح الأطيب. الزبون الذي ترك أثراً في قلوب عائلة أبو الياس كان شخصاً يدعى "كوكو الأرمني"، الذي يذكر الياس أنه في آخر زيارة له أهداه صليباً نحاسياً لا يزال يعلقه في صدر الفرن، ليذكره بالرجل الطيب الذي حمل معه كيساً من الجنفيص معبأ بالمشاطيح ومشى به لآخر مرة من زحلة إلى عنجر.

ضم أبو الياس المشطاح إلى أنواع الخبز التي لعبت دوراً في تأمين الخبز للزحليين، سواء في أزمة العام 1967 أو في حرب العام 1975 وخلال حصار المدينة في العام 1981.

يذكر الياس أنه عندما فقد الطحين من زحلة في أزمة العام 1967 ذهب والده إلى سوريا مع عيد أبو نعوم، الذي كان يملك فرناً في المدينة أيضاً، يرافقهما أمين سر جمعية مار منصور والمدير العام لوزارة الزراعة ليطلبوا الطحين من الدولة السورية التي كانت قد خصصت المدينة بالقمح فحسب. وبالفعل تمكنوا من احضار 30 طناً من الطحين توزعه الفرنان، وأمنا كفاية للمدينة إلى أن حلت الأزمة.

كان الفرن في هذه الفترة يستهلك، وفق ام الياس، 5 أكياس طحين "قلم أحمر"، وهو ما يشير إلى سعة 100 كيلو في الكيس. وكان الفرانون يبدأون العمل من الثانية بعد منتصف الليل حتى الواحدة ظهراً ليلبوا طلب السوق.

في أحداث العام 1975، انقطع الياس وأشقاؤه عن المدارس وراحوا يساعدون والدهم في الفرن. يذكر الياس أنه في تلك الفترة كان الانتقال بالسيارات خطراً. فقرر والده مرة أن يصطحبه وشقيقه تحت القصف مع عاملين آخرين سيراً على الأقدام من حي سيدة النجاة إلى الميدان، لكن الفرن كان بعيداً. وقد طلب أبو الياس، كي لا يصابوا جميعاً في حال فاجأتهم قذيفة، أن لا يسيروا معاً. فراحوا يسيرون بمسافات متباعدة حتى وصلوا سالمين، وكانوا كل يوم يعيدون الكرة، "كي لا يقطعوا الخبز عن الناس".

لا تزال العائلة تعمل في الفرن بالشغف نفسه، محتفظة في كل طرف منه بجزء من ذاكرة مدينة، ومن أخلاقيات أبو الياس. تتكاتف العائلة على ابقاء أبوابه مفتوحة، ملحقة اياه بمتطلبات العصر، عبر صفحات في وسائل التواصل الاجتماعي، ترسخه في ذاكرة الزحليين، في لبنان والمهجر، الذين يتفاعلون مع منشوراته ومن خلالها عن حنينهم إلى "أيام البركة والخير"، التي لا يزال فرن أبو الياس مثالاً حياً عنها.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها