السبت 2023/03/04

آخر تحديث: 10:05 (بيروت)

"استباحة"زحلة تحيي الكلام عن الأمن الذاتي: مواجهة السلاح بالسلاح؟

السبت 2023/03/04
"استباحة"زحلة تحيي الكلام عن الأمن الذاتي: مواجهة السلاح بالسلاح؟
التعويل على الجهود الأمنية لتصعب مهمة "زعران" الدويلة في تسلّطهم (أرشيف)
increase حجم الخط decrease

يتزامن الحديث عن الأمن الذاتي في المجتمعات اللبنانية عموماً مع الأحداث الأمنية الطارئة. وتختزن الدعوات إليه  ترسبات الحروب الأهلية التي مر بها لبنان. فيعكس قهرها من تفوق يؤمنه السلاح المتفلّت بأيدي فئة دون أخرى، ويعكس الخلفية السياسية لبعضهم والتي تتوق أحيانا لمواجهة السلاح بالسلاح سواء أكان شرعيا أم غير شرعي.

النزول إلى الشارع
قبل أيام عاد هذا الحديث عن الأمن الذاتي الى مدينة زحلة. وذلك على خلفية خطف أحد شبابها لساعات، وإقتياده مع سيارته الى أطراف محافظة بعلبك. قبل أن يؤدي الضغط العسكري المباشر الى تحريره وإستعادته مع سيارته المسروقة. مع تسجيل سابقة لجهة القبض على الخاطفين أيضاً هذه المرة. 

ردة الفعل الأولى تجاه عملية الخطف التي تخللها الكثير من التشويق، كانت بالنزول الى الشارع وإقفال أوتوستراد المدينة الذي يشكل الشريان الأساسي بإتجاه محافظة بعلبك. والمشهد ذكّر بالإنفعالات التي رافقت خطف الطفل ميشال الصقر نجل أحد المقربين جداً من القوات اللبنانية في زحلة في سنة 2014. وتكرر معه الحديث عن إنتهاك العصابات لكرامة زحلة والزحليين عموماً. خصوصاً أن الخاطفين إقتادوا المخطوف مع سيارته في وضح النهار، ونفذوا عمليتهم بسيارة "شلّحت" لصاحبها في مدينة زحلة أيضاً قبل أيام فقط.

تناغمت في المقابل مواقف "مسؤولي المدينة"، مع هذه الإنفعالات الشعبية. لتعزز الإنطباعات حول تحوّل زحلة كلها مدينة مباحة أمام إرتكابات العصابات. وقد حمل بعض التعليقات تحريضاً معلناً أو مبطناً على التحوّل الى "أمن ذاتي"، ثمة من ينزع إليه في زحلة منذ مدة طويلة، ويعتبر عدم إرسائه تقصيراً من السلطات المحلية والهيئات الأهلية.

تلويح بالأمن الذاتي
تدخل الجيش السريع في ملاحقة الخاطفين، شكّل بالمقابل إحراجاً لمعظم المعنيين الذين لم يبدوا ثقة كافية بقدرته على إستعادة المخطوف بالسرعة التي حققها. ومع أن كلام ما بعد التحرير أشاد بهذا الجهد، ولكنه لم يخلو أيضاً من تلويح بالأمن الذاتي، أو مطالبة بإرسائه وإنما عبر الإستعانة بسلاح الشرعية العسكرية، التي طالبوها بأن تؤمن حراسة  زحلة ومحيطها.

فالنائب جورج عقيص على سبيل المثال إعتبر أن "إختطاف الشاب الزحلي ميشال مخول، كاد أن يتحوّل شرارة إشكال أمني كبير، لولا حزم الجيش والمخابرات ومبادرتهما السريعة، التي أدت الى مقتل عدد من الخاطفين." ومع أن إرتكابات العصابات لم تنحصر يوماً بزحلة وقضائها، كان رأي عقيص أن "المطلوب اليوم وضع خطة امنية متكاملة لقضاء زحلة، وهذه كانت مطالبتنا منذ أشهر وسنوات."

وكان رأي زميله النائب الياس إسطفان أكثر وضوحاً، في مطالبته  "بإنشاء الحواجز على كل مداخل مدينة زحلة" وعدده للمناسبة 56 مدخلا، مضيفاً "يعرف عن زحلة بأنها مربع الأسود، لن تقبل المساس بهيبتها. ولكننا بتنا اليوم أمام مشهد تسود فيه العقلية الإجرامية، وهو ما لن نقبل به وسنتصدى له. وبما اننا نطالب ببناء دولة، نريد أن يُفرضَ الأمن من الجهات العسكرية ولكن إذا "وصلت الموس للرقبة" لكل حادث حديث ".

اللافت أن بعض الإعلام المحلي أيضاً إستغل الحادثة لإستدراج مثل هذه الدعوات للأمن الذاتي، فلغّم أسئلته المستصرحة للمعنيين بعصبيته المناطقية، محاولاً خلق جو بأن الأمن الذاتي بات مطلبا عاما، عبر إنتزاع مزيد من التصاريح الشبيهة لما قاله إسطفان رداً على سؤال  "في كون الحديث عن أخذ الثأر بين المواطنين نسمعه نتيجة القهر الذي يعيشونه ونتيجة جنوح الأمور نحو الأسوأ". وإن نجح إسطفان في تجنب سقطة الدعوة للأمن الذاتي عبر التأكيد على تحبيذ "فكرة مراقبة الأحياء من خلال تنظيم الشباب مناوبات في الأحياء." ليشدد "على أن زحلة لا تطالب بالأمن الذاتي، بل ببسط الدولة لسلطتها على أراضيها كافة وردع اي تعدٍ على المواطنين".

الشخصية الزحلية
في المقابل جاءت  بعض المواقف التي أطلقت أكثر إرضاءً للإنفعالات الغرائزية المرافقة لكل حادثة أمنية تحصل في زحلة. كمثل ما  ورد على لسان النائب السابق سيزار المعلوف الذي قال "لا يُمكن التفرج على ظواهر الخطف والسرقة التي تحصل في البقاع، وتحديداً في زحلة. واذا كانت القوى العسكرية والأمنية بمؤسساتها كافة تقوم بواجباتها مشكورة، فإننا لن نسمح بأن تصبح زحلة مكشوفة امنياً. ولن نتفرج، ولن نقبل السكوت، ولا السماح لخاطفي البقاع من أهله، ان يستبيحوا زحلة وأخواتها، إلا اذا كان المطلوب ان نقوم بالأمن الذاتي. وهو خيار صار ضرورياً. "

والواقع أن هذه الإزدواجية بين مناشدة الدولة وحزمها في زحلة، ونزعة البعض فيها للأمن الذاتي، ليست حديثة. بل هي ترتبط بالتركيبة النفسية التاريخية للزحليين الذين لطالما تمسكوا بالسلطة الشرعية، ولكنهم أيضاً يمجدون بطولاتهم في رد الغزوات والإعتداءات على أراضيهم وممتلكاتهم منذ عهد المتصرفية وحتى حصار المدينة لثلاثة أشهر خلال فترة الوجود السوري. وقد رسّخوا هذه الشخصية المرتبطة بمدينتهم في نشيد خاص تقول كلماته: "زحلة يا دار السلام فيكي مربى الأسودي، على الضيم والله ما منام، الموت ببوز البارودة".

وهذه الإزدواجية هي تحديداً ما يحبط حماس البعض لأخذ حقه بيده فور وقوع أي حادث أمني. وهي أيضاً ما يجرّد الدعوات للأمن الذاتي من البيئة الحاضنة. خصوصا أن الجزء الأكبر من الزحليين ينشدون دائماً بسط السلطة الشرعية للدولة، ويصرون على إعلائها سلطة فوق كل السلطات. وبرأي هؤلاء أن الأمن الذاتي في زحلة، يحمل مخاطر إستجلاب الفتن الداخلية، بظل التنوع الذي تضمه المدينة، إن كان من الناحية الطائفية، أو حتى ضمن الطائفة الواحدة من ناحية التوجهات السياسية.

 وإنطلاقاً من هذا الواقع، لم تكن الدعوة المتجددة للأمن الذاتي قبل أيام، الأولى التي تحبط في زحلة. بل سبقتها محاولات عديدة لتنظيم حماس بعض الشبان خلال فترات متعددة. وبعضها برعاية نواب من زحلة، أداروا نقاشات عديدة لتشكيل لجان احياء محلية، ترتبط بالسلطة المحلية لبلدية زحلة، وبالقوى الأمنية مباشرة، من أجل الإبلاغ عن أي إشتباه بخلل أمني في أحيائهم. ولكن حتى هذه المحاولات لتأمين الأمن "المجتمعي" تحت غطاء الشرعية، باءت بالفشل، ولم يكن عائقها تمويليا فقط، وإنما إرتبط بالتكوين النفسي للشخصية الزحلية، والذي يجعل من كل فرد فيهم "رأس"، يرفض سلطة فوقه. عدا عن التنافس السياسي في كل حي من أحياء المدينة، والذي من شأنه إسقاط مبدأ التضامن المجتمعي في وجه "الخطر" المحدق من الخارج.

استعادة حضور الدولة
في المقابل يعلم الزحليون تماماً أن أي مناشدة لحماية زحلة مما إعتبروه "غزوات" العصابات، لا يمكن فصلها عن المطالبة ببسط سلطة الدولة على كل الأراضي اللبنانية، وخصوصاً في أماكن وجود أوكار العصابات. بينما تشكل محاولات البعض للإستعانة بالسلاح الشرعي ومطالبته بتزنير مداخل زحلة بحواجز الجيش والقوى الأمنية، وتسيير الدوريات المستمرة، عزلاً للمدينة عن محيطها الذي يشكل الإمتداد الإقتصادي لها، من دون أن يؤدي الى الجدوى الأمنية المرجوة لجهة ردع العصابات.

فهذا برأي البعض يحبس أهل المدينة، بدلاً من أن يحبس العصابات وأفرادها. بينما المطلوب برأي هؤلاء أن يتصرف الجيش والقوى الأمنية بنفس الحزم الذي أظهروه عند إختطاف الشاب ميشال مخول قبل أيام، ولا يكون ذلك حصراً تحت ضغوطات سياسية وشعبية مورست. وبمثل هذا الحزم فقط يتم ردع السارقين، ويجرّدون من حرية التحرك التي جعلتهم يوم الأحد الماضي يتجرأون على إستخدام سيارة مسروقة في سرقة غيرها، وخطف صاحبها. على أن يترافق هذا الحزم الأمني أيضا وفقا للمتابعين، مع إستعادة حضور الدولة على كافة المستويات الخدماتية والإجتماعية، إلى جانب هيبة الأمن، خصوصاً أن الأمن لا يشكل سوى مكونا واحدا من مكونات حضور الدولة. المسألة التي تبدو تعجيزية في ظل الإنحلال الذي تعانيه الدولة على كافة المستويات، والذي يجعل التعويل أكبر على الجهود الأمنية والعسكرية، أقله لتصعب مهمة "زعران" الدويلة، في تسلّطهم على أرواح وممتلكات من لا يزالون حتى اليوم يؤمنون بالدولة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها