الإثنين 2016/06/06

آخر تحديث: 09:47 (بيروت)

المسيحيون: فصيلة معرضة للانقراض

الإثنين 2016/06/06
المسيحيون: فصيلة معرضة للانقراض
ثمة افتعال واضح في ردود الفعل على نتائج الانتخابات في طرابلس لأسباب متعددة (علي علوش)
increase حجم الخط decrease

أبدأ بالاعتذار ممن قد يعتبرون العنوان صادماً. إلا أن المتمعن في ردود الفعل على نتائج الانتخابات البلدية في طرابلس، يكتشف أن بعض القيادات السياسية "المسيحية" خصوصاً تتصرف على هذا الأساس بشكل ممنهج ومقصود، ومنذ فترة طويلة نسبياً. بالنسبة إليهم المسيحيون أقلية في لبنان، لاسيما في المناطق ذات الأغلبية "المسلمة" في تمييز واضح بين مسحيي لبنان المركز (بيروت أو جزء منها، وجبل لبنان) ومسيحي الأطراف (المحافظات الأخرى)، وضمن المحافظات التمييز أيضاً بين مسحيي المراكز– المدن الفرعية الرئيسية وبين مسيحيي البلدات الثانوية (أو "المزارع" في بعض الحالات).

المسيحيون كلهم حسب تصرف تلك القيادات "فصيلة معرضة للانقراض"، ويجب التعامل معها على هذا الأساس. أي يجب أن توضع في "محميات"، وان تتخذ إجراءات خاصة للحؤول دون انقراضها، فنقويها بشتى أنواع المقويات والفيتامينات، بدءاً من خطاب التعايش والمناصفة المنافق، مروراً بقضايا التوازن في التعيينات التي ليست سوى غطاء لتوزيع المغانم السياسية الحزبية أو الزعاماتية، وصولاً إلى ما نسمعه مؤخراً عن كوتا للأقليات في قانون الانتخابات البلدية انطلاقا من نتائج انتخابات طرابلس البلدية. للأسف، يقع في فخ هذه الطروحات – لاسيما مسألة الكوتا – بعض حسني النية.

ثمة افتعال واضح في ردود الفعل على نتائج الانتخابات في طرابلس لأسباب متعددة. إلا أن ما يتصل بها بموضوع غياب التمثيل المسيحي له بعد وطني مختلف يتطلب التوقف عنده تحديداً، لاسيما أنه من المنظور الطرابلسي فإن غياب التمثيل العلوي أكثر أهمية وحساسية لارتباطه بالانقسام السياسي وبالمواجهات المسلحة المزمنة في تاريخ المدينة حتى وقت قريب. ولو كانت المنطلقات طرابلسية لاقتضى الأمر التركيز على غياب التمثيل العلوي الإشكالي، اكثر مما يتعلق الامر بالتمثيل المسيحي الذي ليس له دلالات سياسية مرتبطة بصدامات، ومن يعرف طرابلس يعرف مدى اندماج مسيحيي طرابلس بمدينتهم. أما أنه جرى اهمال التركيز على غياب التمثيل العلوي والتركيز على غياب التمثيل المسيحي، فلأنه يصعب توظيف الأول في الخطاب السياسي الوطني، في حين أن مسألة غياب التمثيل المسيحي مسألة قابلة للتوظيف في المشاريع الوطنية للأطراف السياسية اللبنانية لتحقيق أهدافها الفئوية.

بالنسبة إلى القيادات "المسيحية"، مسألة حقوق المسيحيين (المهددين بالانقراض) هي في صلب المشروعية السياسية التي يستندون إليها في التنافس الداخلي على الجمهور المسيحي، والذي يجد تعبيراته الأكثر وضوحاً في مشروع قانون الانتخابات المسمى زوراً "القانون الأرثوذكسي"، وهو أحد الأهداف الرئيسية للأحزاب الثلاثة (التيار والقوات والكتائب) مع احتمالات تمايز "الكتائب" التي يلاحظها اللبنانيون بعد لقاء معراب بين "التيار" و"القوات". الهدف من هذا القانون هو تشريع ومأسسة مصادرة التمثيل السياسي للمواطنين المنتمين إلى الطوائف المسيحية، والتوصل إلى نوع الثنائية المشابهة لثنائية "حزب الله"- "حركة أمل"، أو الوحدانية الجنبلاطية (وإن كانت وحدانية مخففة). معركة مصادرة التمثيل هذه لا تهدف إلى مواجهة الزعامات السياسية القوية عند الطوائف الأخرى، بل هي تهدف إلى إضعاف – إلغاء الزعامات "المسيحية" المحلية والموضعية التي هي الخصم الأساسي، بهدف التحالف مع قيادات "الطوائف الأخرى" وتقاسم المغانم معها.

وتؤكد المعارك الكبرى في دير القمر، زحلة، جونية، جزين، تنورين والقبيات، أنه لا يمكن قراءة وتحليل ما جرى باستخدام مفردات الطائفية التقليدية، بل هي تجليات واضحة لعداوة فظيعة ومرعبة لدى من يعتقدون أنهم يجب أن يكونوا وحدهم القيادة التي تحتكر التمثيل المسيحي، وبين من لا يزال يحتفظ بنفوذ قيادي محلي من المسيحيين.

بهذا المعنى فإن التركيز على غياب التمثيل المسيحي في بلدية طرابلس الهدف منه هو خدمة هذا التوجه، ولا علاقة له بمسيحيي طرابلس ومصالحهم وحقوقهم، بل إن هذه السياسة تحتاج إلى ضحايا هم مسيحيو الأطراف خصوصاً، بل هي تعمل جاهدة إلى التضحية بهم وإلى اندثار حضورهم في مناطق وجودهم، لكي تبرر لنفسها مصادرة التمثيل وطنياً، مرة أخرى لا بغرض مواجهة الآخر المختلف (بحسب منطقهم الخاص) بل التحالف وتقاسم المغانم مع هذا الآخر المختلف ضد المسيحيين الآخرين. وإن كنا نتناول هذه الدينامية الراهنة في الوسط المسيحي تحديداً، فذلك لأنها راهنة، في حين أن هذه العملية تمت بمستويات مختلفة في الوسطين الدرزي والشيعي في وقت سابق، ووفق ديناميات مشابهة في الجوهر، في حين أنها كانت دائماً أكثر صعوبة في الوسط السني المديني خصوصاً، وعلامات التفكك فيها أكثر وضوحًا.

أما بالنسبة للأطراف الأخرى وطنياً، فإن التجاوب والتفاعل الإيجابي مع موضوع الأقليات هو أحد أشكال النقد والتهجم على الخصم الانتخابي الفائز في بلدية طرابلس، ويعبر عن الحاجة إلى اختراع انتصار يحتاجون إليه. ولا ننسى أن لائحة "البيارتة" لم تجد ما تحفز به جمهورها في مواجهة لائحة "بيروت مدينتي" سوى إثارة موضوع المناصفة بين المسيحيين والمسلمين، والدعوة إلى انتخاب اللائحة كلها من أجل ضمان المناصفة بصفتها الانتصار الوطني الأكثر أهمية.

في طرابلس لا شك أن غياب التمثيل العلوي أولاً، والمسيحي ثانياً، هو ثغرة يتحمل مسؤوليتها أولا وأخيرا النظام الانتخابي الأكثري واحتدام المعركة الانتخابية بين لائحتين قويتين. لكن الحل لا يكون بالارتداد إلى نظم الكوتا الخاصة بالأقليات وفق بعض التصريحات التي صدرت عن أطراف متقابلة وعن رجال دين، بغض النظر عن النوايا الحسنة او غير الحسنة هنا. نظام الكوتا هو تكريس لمنطق الأقليات وهو امر مرفوض، وهو تكريس لمنطق "أهل الذمة" هو مرفوض أيضا، وهو تكريس لفكرة "الفصيلة المعرضة للانقراض" التي يجب حمايتها باجراءات خاصة وهي اكثر من مرفوضة. الحل هو في التقدم نحو المواطنية (هل سمع سياسيو لبنان بشيء اسمه المواطن والمواطنية؟)، التي تسمح لصادق خان ان يكون رئيس بلدية لندن. والحل هو شيء اسمه النظام الانتخابي النسبي (هل سمعوا بهذا الأمر أيضا؟). والحل قبل كل ذلك بأن يحق لكل سكان المدينة أن يقترعوا فيها حيث يعيشون ويعملون ويملكون ويستأجرون ويدفعون الرسوم والضرائب، هذا هو أصلا معنى البلدية. واذا كان هناك من "أقلية" مستبعدة عن التمثيل، فهي – في المدن تحديدا- أغلبية السكان من غير المقيدين في سجلات المدينة. هذه هي الأكثرية المستبعدة من التمثيل البلدي في ظل النظام الانتخابي اللبناني الذي تتحول فيه الانتخابات البلدية الى مجرد مناسبة لتجميع نقاط في صالح هذه التيار او ذاك، كما تجلى ذلك بفجاجة في كل المؤتمرات الصحفية لمسؤولي التيارات السياسية التي عددوا فيها انتصاراتهم – اقرأ غنائمهم – البلدية.

أهل طرابلس بمن فيهم المسيحيون، ممثلون اليوم بفضل المنافسة الانتخابية أفضل مما كانوا ممثلين في المجلس البلدي السابق المعين. لكن ذلك ليس الا نقطة البداية، وامام المجلس البلدي الجديد تحديات كثيرة:

- أولها، أن لا تقوم بينه وبين من دعمه سياسياً (أي اللواء ريفي) علاقة تبعية تشبه علاقة التبعية التي كانت قائمة بين المجلس البلدي السابق وزعامات سياسية أخرى.

- ثانيها، أن ينجح المجلس البلدي في إنشاء آليات وهياكل تشاركية في عمله طوال مدة ولايته.

- وثالثها، أن يقوم بخيارات صائبة في مجالات التنمية في طرابلس لا أن يكرر الخيارات الخاطئة السابقة التي ساهمت في خسارة من خسر.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها