الجمعة 2020/06/05

آخر تحديث: 15:05 (بيروت)

فساد القضاء في مكافحة فساد الدولة اللبنانية الغنائمية

الجمعة 2020/06/05
فساد القضاء في مكافحة فساد الدولة اللبنانية الغنائمية
لا الفساد عندنا هو الفساد التقليدي، ولا القضاء عندنا هو القضاء التقليدي (Getty)
increase حجم الخط decrease
في الخطاب السائد، كلما جرى الكلام على الفساد، يبرز دائماً من يقترح اللجوء إلى القضاء، باعتباره الآلية الأمثل لمكافحة الفساد. لا بل يذهب القول إلى حد اعتباره السبيل الوحيد الفعال لكشف الحقيقة ومعاقبة الفاسدين.

القضاء.. للسكوت؟!
هذا كلام بسيط ومباشر، جذاب ومقنع ظاهرياً. وعدة شغله واضحة أيضاً: إعداد ملفات محددة بشكل جيد، وتقديمها إلى القضاء المختص ومتابعتها.

طبعا ثمة متمم لذلك: عندما يضع القضاء يده على ملف، فما علينا سوى السكوت، أو أقله الامتناع عن اعتماد وسائل أخرى - لاسيما السياسية منها - في انتظار حكم القضاء. وفي لبنان، إذا أتى الحكم مناسباً لتوجهنا، نرحب به؛ وإن لم يكن كذلك، فلأن القضاء مسيّس.

هذه المقاربة تبسيطية جداً، لا سيما عندما يتعلق الأمر بلبنان اليوم. ومن الطبيعي، علينا العمل دائماً ليكون العمل السياسي ممأسساً وقانونياً، ويراعي أحكام الدستور ومبادئ حقوق الإنسان. وهذا متعارف عليه في مجال مكافحة الفساد عالمياً.

لكن هذه المقاربة في لبنان اليوم ساذجة ومضللة في آن. فلا الفساد عندنا هو الفساد التقليدي، ولا القضاء عندنا هو القضاء التقليدي.

دولة مجلس القبائل
الفساد ظاهرة موجودة في دول العالم كلها. وهو يشمل القطاعين العام والخاص. ويمكن اختصار تعريفه الأساسي في تحقيق منافع غير مستحقة، من خلال مخالفة القانون أو الإجراءات أو التحايل عليها، أو استغلال النفوذ والمواقع.

هذا الفساد الموجود في كل مكان، يُنظر إليه بصفته أمراً شاذاً، وخروجاً على القاعدة، واستثناء. وهو "لطيف جداً"، مقارنة بما يوجد عندنا في لبنان.

فالفساد ليس الاستثناء عندنا، بل هو القاعدة، وأصل اشتغال النظام السياسي والمؤسسات المنبثقة عنه. أبعد من ذلك: وظيفة الدولة نفسها تحولت من إدارة الشأن العام، إلى ما يشبه وظيفة مجلس القبائل الذي يشرف على تقاسم الغنائم بعد الغزوات. لا بل إن الدولة نفسها ومؤسساتها ومواقعها، تحولت إلى غنيمة يفوز بها الأقوياء، ويسخرون دستورها وقوانيها ومؤسساتها للحصول على الغنائم والاحتفاظ بها، من دون ضوابط أو معايير. وبالتالي يكون الفساد أمراً بسيطاً جداً إزاء هذا الواقع.

ولا يقتصر الأمر على المنافع المادية والرشوة، بل هناك ممارسات أخرى أشد خطورة بما لا يقاس: كأن تكون الحكومة بأسرها بلا سلطة، لا بالجملة أو بالمفرق، كما حصل مع تراجعها مع قرارها الذي صوتت عليه في موضوع كهرباء سلعاتا. هنا يبدو فساد السلطة والمؤسسات شامل ومطلق. بمعنى خروجها عن وظائفها البديهية، وهو أعمق وأبعد من انتفاع مادي فرعي.

قانون الغنيمة
نقل نشوء الدولة الحديثة (والعقد الاجتماعي) المجتمعات البشرية من وضعية قانون القوة إلى قوة القانون. ونحن في لبنان نعيش اليوم العودة إلى قانون القوة. وهذا هو الفساد المطلق وتحلل الدولة والمؤسسات وسيادة القانون. وهذا الوضع ينعكس حكماً على القضاء ودوره، نظراً لأن مبدأ الفصل بين السلطات لا يكون قائما في الأساس. وغير قائمة أيضاً فكرة أن يكون جهاز الدولة على قدر من الحياد في أداء وظائفه الإدارية على الأقل.

ففي نمط الدولة الغنائمية الذي نعيش فيه، تغيب فكرة حياد جهاز الدولة. ذلك لأن الدولة هي حصص وغنائم ومواقع مرصودة للأقوياء، وفي خدمة مصالحهم المباشرة، لا في خدمة الصالح العام.

ولا يخرج القضاء عن ذلك، لا بما هو أشخاص فحسب، بل إن فكرة وجود أي جهاز أو مؤسسة غير مستتبعة للمتسلط بالقوة وصاحب القرار الفعلي، تكاد تكون غير ممكنة، إلا متى كانت في خدمة مشاريعه. أبعد من ذلك: لبنان دولة تعيش خارج القانون ومؤسساته الدستورية، صاحبة السلطة مبدئياً. وهي دولة ألغت القانون، بما هو ناظم العلاقات بين المؤسسات، وبينها وبين الناس.

لذلك يصح التساؤل: هل يمكن تحميل القضاء مسؤولية فعلية في بلد لا قانون فيه؟ إن غياب القانون يعني تعطيل وظيفة القضاء أيضاً.

الفساد في لبنان، بهذا المعنى الواقعي، ليس شأناً تقنياً ولا شأناً قانونياً، بل هو شأن سياسي بامتياز. لا بل يطال طبيعة الدولة نفسها. لذلك فإن مكافحة الفساد هي شأن سياسي أولاً وأخيراً، وعنصر في مسار التحويل السياسي الديموقراطي والمدني، لكي تنتصر قوة القانون على قانون القوة.

وبهذا المعنى، فإن إعداد الملفات ورفع الدعاوى أمام القضاء، بشكل متفرق ومبعثر، يبقى قاصراً عن تحقيق الأهداف. فمكافحة الفساد قضية نضال وتغيير سياسي هيكلي بالدرجة الأولى. أما تحويله إلى متابعة قضائية، فمن شأنه تقزيم الأمر، ويحرف الضغط الشعبي والسياسي عن وجهته الأصلية. وفي ما يخص المسار القضائي نفسه، ثمة مجال للتطوير أيضا. فهو مسار ضروري ومكمل للمسار السياسي التغييري العام. ولكن هنا أيضاً يمكن للمجموعات المشاركة في الثورة والجمعيات والنقابات المعنية، أن تنتقل من الملفات المجزأة إلى التقاضي الاستراتيجي المدعم لمسار التغيير السياسي.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها