الخميس 2023/12/21

آخر تحديث: 09:36 (بيروت)

ماذا بعد الرُسل

الخميس 2023/12/21
ماذا بعد الرُسل
increase حجم الخط decrease

في الحرب، لا تجد أن ثمة مدنياً يرافق الجندي في أرض المعركة، ويسير بمحاذاته، وهو أعزل من السلاح، غير الصحافي، ولذلك، فهذه ليست فقط مهنة البحث عن المتاعب، بل هي في كثير من الأوقات تتحول إلى مهنة البحث عن الحقيقة وسط الموت.

وخلال الحرب على غزة، كان الجري وراء الحقيقة، جزءا من خطورة الحرب ذاتها، ففي ظل كل معطيات ما نعرف من أمر الإعلام الدولي، وانحيازاته، ومن طبيعة غزة ومنع الصحافيين الأجانب من دخولها، أصبح الصحافي الفلسطيني من أهل القطاع، هو الشاهد، كما كان هو الشهيد، وحقق بالفعل إنجازاً عظيماً، حينما وضع حقائق ما يجري بكل دمويته وبشاعته ومتغيراته الاستراتيجية امام أنظار العالم، بل انه شارك بفاعلية في وضع القضية الفلسطينية على رأس جدول أعمال المجتمع الدولي. حقق كل ذلك ويزيد، ولكن بثمنٍ غالٍ جدا.

حتى الآن العشرين من كانون الاول/ديسمبر استشهد 92 صحافيا في الحرب على غزة، وأرجو أن لا يزداد الرقم، مرة اخرى، هذا يعني أن هذه الحرب تضمنت أكبر معدل قتل للصحافيين في تاريخ الحروب عبر العالم، قياسا لفترتها المحدودة نسبيا، وللحيز الجغرافي الصغير الذي تجري فيه.

وبالمقارنة مع سوريا والعراق، اللذين اعتبرتهما منظمة (مراسلون بلا حدود) أخطر المناطق في العالم على الصحافيين، فإن غزة هي اليوم المكان الأخطر على الصحافيين وعلى كل من يعيش فيها، وفيما استشهد في سوريا نحو 700 صحافي خلال نحو 12 عاماً من الصراع مع النظام، إلا أن هذا الرقم المرتفع، أصبح رغم فداحته أقل من حيث النمط مما يجري في غزة.

هذا النمط من التضحيات التي يقدمها الصحافيون في غزة، ومنهم حتى الآن 11 شهيدة من المراسلات والصحافيات، لم يحصل من قبل أبدا، حيث يستشهد أكثر من صحافي كل يوم، وجميعهم فلسطينيون، في رقعة محدودة، وبوقت قصير، ومن دون رادع او خشية من عقاب.

وبالمقارنات فقد تجاوز عدد الشهداء من الصحافيين في غزة مرة ونصف تقريبا عدد القتلى من الصحافيين خلال الحرب العالمية الثانية بكاملها (1939-1945) وقد بلغ في حينه 69 صحافيا، مقارنة بمقتل عشرات الملايين في العسكريين والمدنيين في أنحاء العالم ومن جنسيات مختلفة، وفي حرب فيتنام التي استمرت 20 عاما، قتل 63 صحافيا، وفقَد 17 صحافيا حياتهم حتى الآن في الحرب الروسية الأوكرانية التي تسير نحو انهاء عامها الثاني.

ولا يمكن أن يكون هذا النمط غير المسبوق في ظاهرة قتل الصحافيين، مجرد مصادفة محزنة، ولا هو بالحوادث المتوقعة في أوقات الحرب، فالصحافي بشكل عام يعمل تحت حماية قوانين دولية واضحة، لا سيما حين يكون موجودا في أماكن بعيدة عن مواقع القتال الرئيسية كما تابعنا، وغالبية حوادث الاستشهاد في غزة جرت بعمليات قصف، تقرب من عمليات اغتيال في كثير من الحالات.

استشهاد مصور الجزيرة سامر أبو دقة، كان نموذجا مفجعا لهذا الاستنتاج، فهو كان موجوداً في مدرسة تابعة للاونروا تعرضت من قبل للقصف، للقيام بمهمة تصوير صحبة المراسل وائل الدحدوح، والأنكى انه ظل ينزف خمس ساعات حتى استشهاده.

هذا النمط من القتل، لا يختلف عن التعامل الدموي مع الصحافيين الذي حصل من قبل وما زال في سوريا حيث يقبع مئات الصحافيين في سجون النظام من دون معرفة مصير معظمهم، ناهيك عن الشهداء، هناك عمليات قتل يومية تقريبا تجري على الملأ، واستهداف لعوائل كثيرين من الصحافيين والمراسلين، وبعضهم تلقى تهديدات مباشرة بذلك، وهو ما يجعل من مذبحة الصحافيين اكثر ايلاماً وشراسة.

الضحية الكبرى هنا هي الحقيقة، فغياب الصحافيين من أي مشهد، يجعله مجرد بقعة سوداء أمام العالم والتاريخ، ولذلك فالمخاوف الدائمة تتضمن القلق على الحقيقة كما على حياة الصحافيين، لكن المفاجأة المهمة أن البقعة المحدودة في غزة، قدمت حتى الآن عدداً ضخماً من الصحافيين المحترفين عوضوا بالفعل زملاءهم الراحلين، وواصلوا نقل الحقيقة بطريقة شديدة التميز من الناحية المهنية، والاخلاقية والانسانية.



increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها