الإثنين 2024/01/22

آخر تحديث: 06:42 (بيروت)

إيران..الرسائل المضادة

الإثنين 2024/01/22
إيران..الرسائل المضادة
increase حجم الخط decrease

لم تكن الغارة الإسرائيلية التي قتلت السبت القياديين الإيرانيين الأربعة في دمشق، ردا مباشرا ‏على موقف محدد، لكن سياقها المتزامن مع عمليات قصف إيرانية سبقتها بأيام، واستهدف ‏أحدها حسب طهران موقعا للموساد في أربيل، يجعل من القصف الإسرائيلي الجديد، تنكيلا ‏إضافيا بطهران وبتسويقها لصورة الدولة الإقليمية الكبيرة والمهيمنة.‏

ولطالما عرفت إيران بأنها يمكن أن تكون براغماتية بشكل كبير ومع أطراف غير متوقعة، ما ‏دامت تحصل على مقابل مضمون ومناسب، لكنها حساسة بشكل خاص لانهيار صورتها كدولة ‏قوية ممتدة الأطراف، واسعة القدرة والنفوذ عبر الإقليم، وإلا فإن ما بنته من عناصر ردع، ‏سيتلاشى، ويشمل ذلك الخارج والداخل على حد سواء، ودونه سرعان ما تجد نفسها أمام ‏تحديات تتعدى استقرار النظام إلى وحدة البلاد ذاتها.‏

لهذا السبب بشكل خاص، قام "الحرس الثوري" بضرباته الصاروخية التي شملت ثلاث دول ‏‏(العراق، سوريا، وباكستان)، على أمل استرجاع جانبا من انهيار حاجز الردع بعد انفجاري ‏محافظة كرمان مطلع العام، والضربات الإسرائيلية المتتالية التي قتلت اكثر من قائد ميداني ‏كبير في سوريا، ومجموعة عمليات اغتيال وتفجيرات، داخل إيران ذاتها. هذه العمليات، لا ‏سيما انفجاري كرمان، تسببت داخل ايران باهتزاز صورة النظام الذي طالما قدم نفسه لشعبه، ‏على أنه لا يهزم، أو لا يمس، وقام بالكثير من عمليات القمع القاسية ضد معارضيه أو منتقديه، ‏واوحى بأنه يستحق الطاعة والولاء ما دام يدافع عن ايران بهذه الصلابة ضد (الاستكبار ‏والصهيونية).‏

وفضلا عن ذلك، كانت صواريخ الحرس نمطا من استعراض القوة، وسط مناخ جيوسياسي ‏رخو، فرضته حرب غزة، وتطوراتها، والسنة الانتخابية المثيرة في الولايات المتحدة، ‏وتداعيات حرب اوكرانيا، ومخططات الصين، وطموحات دول الخليج، وكل هذه الأحداث، ‏ربما دفعت الحرس الى هذه الهجمات التي سرعان ما ارتدت على طهران، من غير ان تصيب ‏خصومها باي خدش.‏

تلقت ايران ردة فعل سريعة وحادة وغير متوقعة من العراق المجاور، بطريقة تسببت لها ‏بحرج بالغ، ونلت من كثير من نفوذها هناك، فقد سارعت الحكومة إلى تشكيل فريق تقصي ‏للحقائق، قام في اليوم التالي بتكذيب الرواية الإيرانية، وسارعت بغداد إلى تقديم شكوى لكل ‏من الأمم المتحدة ومجلس الأمن، وهددت بتجميد اتفاقية امنية مع طهران، وسلمت القائم ‏بالاعمال الايراني شكوى رسمية، وسحبت سفيرها من طهران للتشاور، إلى جانب إدانة ‏سريعة من الجامعة العربية للهجوم الإيراني.‏

اعتبر هذا الرد العراقي، تطورا غير مسبوق في سياق العلاقات مع ايران منذ عام 2003، ‏وتسبب على الفور بتحفيز الوطنية العراقية، وتوحيد العراقيين بشكل نادر، كما وضع حلفاء ‏إيران من الميليشيات والسياسيين والإعلاميين، في زاوية محرجة، فصمت معظمهم، ولم ‏يتحدث منهم سوى القليل، في سياق تبرير الهجوم الإيراني، وتعزيز الرواية الايرانية التي ‏ادعت انها استهدفت مقرا للموساد في أربيل، وهو ما كذبته الحكومة العراقية التي أكدت ان ‏الصواريخ أصابت منزل رجل اعمال عراقي كردي فقتلته مع أبنته الطفلة وضيف كان معه، ‏وأصابت زوجته وطفله الثاني بجروح بليغة.‏

لكن النكاية الأكبر التي تلقتها إيران، جاءت من باكستان، حيث لم تنتظر الاخيرة سوى يومين ‏قبل ان تقوم بهجوم مماثل، لكنه تم بسلاح الجو حسب البيانات الباكستانية واستهدف معسكرات ‏لمسلحين انفصاليين بلوشستانيين معارضين لحكومة إسلام آباد يقيمون في عمق الحدود ‏الإيرانية. قالت باكستان أنها قامت بجزاء هو من جنس  العمل، وأن جيشها سيعيد أي أصبع ‏يمتد إليها مبتورا من حيث جاء. ‏

ابتلعت إيران الرد الباكستاني، دون تصعيد مقابل، سوى الكلام والتنديد، وبدلا من أن يقدم ‏النظام مظهرا لقوته، تورط بشكل غير مفهوم مع قوة نووية، فأرسل صواريخ وتلقى مقابلها ‏خرقا لأجواء إيران، وضربة في عمق 50 كيلومترا داخل أراضيه، فعزز صورته كقوة ‏صاروخية، لكنه كشف عن ضعف دفاعاته الجوية، وخيبة طيرانه، وسهولة اختراق اجوائه، ‏والأهم، أنه تلقى ما حاول تجنبه طوال أكثر من 35 عاما، حيث تعرضت أراضيه للقصف من ‏دولة أجنبية للمرة الأولى منذ نهاية حربه مع العراق عام 1988.‏

وحدها سوريا، لم ترد، ولم يصدر منها شئ، وكان ذلك متوقعا على كل حال، لكن المثير ‏للاستغراب أن إيران أطلقت صواريخ بعيدة المدى من عربستان في جنوبها الغربي، وقطعت ‏نحو 1200 كيلومتر لتصيب مقرات لداعش في ريف حلب كما زعم بيان الحرس الإيراني، ‏في حين أن ميليشياتها في سوريا تسيطر على مواقع قريبة من مكان الاستهداف، وكان يمكنها ‏قصفه بأسلحة أقل تكلفة وأكثر دقة وكثافة نارية وأشد تدميرا، وهو ما يعزز فرضية أن طهران ‏أرادت استعراض القوة، أو ربما تسويق صواريخها كما توقعت نيويورك تايمز. 

في حصيلة المغامرة أو (البلطجة) الإيرانية، أن طهران ربما أرادت إرسال رسائل قوة عن ‏امتلاكها‎ ‎صواريخ بعيدة المدى تصل إلى خصومها في الإقليم، لكنها بعدما تلقت رسائل مضادة ‏حادة ومحبطة لها من العراق وباكستان، أعادتها للمربع الأول، مع خسائر إضافية في الصورة ‏والمكانة، عادت وتلقت ضربة إسرائيلية أكثر قوة، بمقتل مسؤول استخبارات فيلق القدس ‏ونائبه في الغارة الإسرائيلية على دمشق، والعبرة هنا، أن القصف لم يطل قيادي عاديا، بل ‏مسؤول استخباري رفيع، يفترض أن يكون خبيرا بالتخفي، وتضييع الأثر، وهو أيضا  يشبه ‏الصندوق الأسود لتحركات (فيلق القدس) وخططه، والوصول إليه يطرح أسئلة كبيرة أخرى، ‏عن الانكشاف الإيراني أمام إسرائيل في سوريا، وعن هشاشتها، وضعف حيلتها، وكذلك عن ‏طبيعة (المصادر) التي تزود إسرائيل بالمعلومات، وهل هي من داخل النظام السوري، أم من ‏الحليف الروسي، بسبب طبيعة الشخصيات المستهدفة والدرجة العالية من السرية لتحركاتهم.‏

ولكن هل يمكن أن تقوم إيران برد ما لاستعادة بعض من هيبتها المكسورة؟ من الواضح أن ‏طهران ستحرص على عدم الانزلاق إلى دوامة مواجهة مباشرة وشاملة، فهي لا تريد احراج ‏ادارة بايدن،  في عام انتخابي حساس وحرج في الولايات المتحدة، ولنتائجه أهمية خاصة في ‏الاعتبارات الايرانية، وبحاجة إلى توازن دقيق بين الدبلوماسية والقوة الخشنة المحدودة ‏لاحتواء كل التطورات حتى لا تفاجئها عودة ترامب للبيت الأبيض، ومعه تعود حسابات ‏جديدة أشد وقعا عليها بكثير.‏

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها