الجمعة 2023/01/20

آخر تحديث: 15:01 (بيروت)

جاسيندا آردرن مُستَنزفة.. نصدّقك

الجمعة 2023/01/20
جاسيندا آردرن مُستَنزفة.. نصدّقك
رئيسة وزراء نيوزيلندا تعلن استقالتها (غيتي)
increase حجم الخط decrease
لم يعد لديّ الطاقة لأقوم بدوري كما يجب... كلمات بهذا المعنى، قالتها رئيسة الوزراء النيوزيلندية جاسيندا آردرن، لتوصيف حالة الاستنزاف التي وصلت إليها.


آردرن أخذت قرار الاستقالة من منصبها، في وقت يفترض فيه أن تستعد وحزبها لخوض انتخابات يتوقع أن تكون حملاتها شرسة، وإلا سيكون ضمان الفوز بنسبة مريحة، خلافًا للانتخابات السابقة، في مهب الريح... بل إن الخسارة تكاد تبدو، من دونها، واقعة لا محالة.

آردرن مستنزفة. رغم تهدج صوتها، قالتها بالطريقة التي تشبهها، باستثنائية غير متكلفة. مثلما توجهت إلى شعبها عند الإغلاق الأول في مستهل جائحة كورونا بالقول: كونوا أقوياء... كونوا لطفاء، أبقت آردرن على المعادلة التي حاولت إرساءها طوال فترة ولايتها في تقديم نموذج يوازن بين الجرأة والعقلنة، بين الحزم والتعاطف. وجدت طريقها مجددًا إلى الشجاعة الكافية لإدراك عدم قدرتها على إضافة شيء لحزبها ولشعبها وفقدانها النفَسَ القوي لإتمام مهمتها على النحو المرجو منها... ولإظهار قوة في مصالحة مع الذات تمكنها من القول إن التخلي في هذه المرحلة أفضل من المكابرة والعناد...

حان وقت إنهاء فصل قدمت فيه كل ما تستطيع، ولإفساح المجال لشخص آخر يعطي ما لديه للمهمة المنوطة بشاغل المنصب. ولعل الأهم هو إتاحة آردرن المجال لذاتها، هي قبل أي شخص آخر، لتكون هي وصحتها النفسية وقدراتها الذهنية والمهنية أولوية. أن تبقي على كل هذه الحزمة التي، في وقت ما، مكّنتها من أداء هذا الدور بطريقة مبهرة لبعض أقرانها من قادة العالم، في صحة جيدة... للالتفات إلى مشاريع أخرى في انتظارها، وتكون قادرة حينها على العطاء أيضًا. فعلت ذلك للمصلحة العامة، ولمصلحتها الخاصة.

جاسيندا آردرن، تجرأت على ذلك... لم تتشبث بدوامتها خوفًا من مقاربات تصمها بالفشل أو بأنها لا تستطيع. قالت للصحافيين، قالت لنا جميعًا، إن هناك زاوية واحدة لمقاربة الأمر على ما هو عليه في الواقع... إنها إنسانة، وحمل السنوات الماضية أنهكها. لا شيء يدعونا للتشكيك، نصدقك جاسيندا... إنه الاستنزاف الذي لا بد أن يطاولنا جميعًا، مرة واحدة على الأقل في حياتنا المهنية، وربما مرات لا تحصى في مواجهة الحياة بتحدياتها المهولة.

لكن بقي مَن يريد استعادة السؤال الذي لم يغب تمامًا، رغم كل الأشواط التي قطعتها النساء حول العالم، وكل النضالات، منها ما أثمر، ومنها ما سترثه الأجيال اللاحقة. تمّت استعادة هذا السؤال على ألسنة بعض المعلقين وتغريدات البعض، وحتى في عناوين مواقع إخبارية وازنة… هل تستطيع النساء الحصول على كل شيء؟ أو هل بإمكان النساء التوفيق بين العمل والحياة الخاصة؟ أسئلة كان الظن أن المواجهة المتواصلة مع المفاهيم الكامنة خلفها والممارسات المعبرة عنها، ستُخجل طارحيها على الأقل.

قد يبرر هؤلاء استحضار هذا المنطق، بأن آردرن نفسها، ختمت بالإشارة إلى تطلعها لرؤية ابنتها تبدأ رحلتها الدراسية ورغبتها في أن تكون حاضرة إلى جانبها، وتوجهها إلى والد ابنتها بدعوته للزواج بعد سنوات من الشراكة.

آردرن تريد أن تخفف حِملاً عن كاهلها. خمس سنوات ونصف السنة، أعطت خلالها كل شيء لدورها السياسي وقادت بلادها في محن عديدة، منها مجزرة إرهابية وجائحة... وأعطت فيها كل شيء لحياتها الخاصة... وضعت علامات الإنجاز في خانات كثيرة خلال سنوات قليلة، فيما قد يحتاج آخرون سنوات عديدة لتحقيقها. فعلت ذلك كله، وأُنهكت... فقررت الاستراحة... الأمر بسيط ومعقد في آن. وصاحبة الشأن تدرك أنه الخيار السليم، لكنه، قد يبرر للمتسائلين في العام 2023 عن قدرة النساء على المواءمة بين أدوار ووظائف إنسانية تشبههن ومواكبة لعصرهن، الفهم السائد للاستنزاف في العمل... إنه وصمة...

قبل عام، نشر جوناثان ماليسيك، مؤلف كتاب The End of Burnout، مقالًا في "نيويورك تايمز" عن استنزاف الرجال، بعنوان "كيف يحترق الرجال". كتب ماليسيك عن تجربته الشخصية مع الاحتراق الوظيفي، وكيف أثرت تجربة الاستنزاف فيه وفي من حوله، وبشكل أساسي في طلابه الذين صعب عليهم التعلم والاستفادة منه بسبب سلوكه.

وإذ يشرح كيف أن الاستنزاف وصمة يخشاها الرجال، لأن بيئات العمل التي ما زالوا يحتلون مساحاتها الواسعة، لا تسمح به، باعتبار أن المستنزفين غير قادرين على العمل، ليسوا مُنتجين، لا يحققون إذًا دورهم الوظيفي اجتماعيًا كمُعيلين، وبالتالي يعرضون "موقعهم" للخطر. يقول إنه قرر إنهاء استنزافه، ووجد طريقه إلى الراحة بتأمين دوره في العلاقة مع شريكته داخل المنزل من خارج منطق الإعالة وتأمين القوت، خلافًا لبيئة مجتمعية وسياسية لا تؤسس إلا للنمط الآخر.

مستندًا إلى إحصائيات نشرها المركز الوطني للإحصاءات الصحية في الولايات المتحدة العام 2019، يشير ماليسيك إلى تفاعل الرجال مع الاستنزاف بخلاصة مفادها أن النساء أكثر تعبيرًا منهم عن هذه التجربة.

الكلام عن الاستنزاف إذًا، خط أحمر... لكن جاسيندا تكلمت، سبقتها نساء أخريات، ربما لسن في موقع الضوء نفسه الذي مكّنها من إشهار ذلك على نطاق واسع، ولفت النظر، إلا أنهن خضن التجربة كاملة، قدمن النموذج، نجحن واحترقن.

كل امرأة ناجحة اختبرت الاستنزاف. لا بد أنها تلمست حرق المراحل لتكثيف الإنجازات وإثبات الذات وتحقيق التميّز على الجبهات كافة، وأثر ذلك في تحويل الذات إلى رماد... فقالت... غيّرت وأثبت وأنجزت، أما بعد...

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها