الثلاثاء 2023/10/10

آخر تحديث: 16:25 (بيروت)

سفير فلسطين يُربك مُحاوِريه الغربيين

الثلاثاء 2023/10/10
سفير فلسطين يُربك مُحاوِريه الغربيين
"عالَم بعَين واحدة" (رسم لم يُعرف صاحبه لكنه متداول بكثرة في الشبكات الاجتماعية)
increase حجم الخط decrease
الانحياز في بريطانيا إلى جانب أوكرانيا، عند إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الحربَ على كييف، بدا محسومًا وواضحًا. لا مساحة رمادية على الإطلاق، لا سياسيًا ولا إعلاميًا.

لم يشكل ذلك مفاجأة، إلا أنه كشف للإعلاميين البريطانيين هوامش كثيرة يمكن لهم التحرك فيها، فارتأوا التمسك بـ"المهنية غير المحايدة". إطار تشكَّل مع انغماس صحافيين بريطانيين في متابعة ميدانية للثورة والحرب في سوريا، وشمل لاحقًا مواضيع وقضايا أخرى، يضيق هامش هذا الإطار أو يتسع حسب اختلافها.

أخذوا يبلورون كيف يمكن لك أن تكون مهنيًا، أن تكون صادقًا، كيف أن لنقلِك الخبرَ منزوعًا من سياقه لا يضيف لك مهنية، بل يجعلك مسوِّقًا معلومةً سطحية، ومجافية للوقائع ومنحازة.

هذه الوصفة، المهنية غير المحايدة، التي كانت تُنكَر على الصحافيين العرب في تغطيتهم للأزمات الساخنة والحروب في بلادهم، باتت مفهومة، ومقبولة، ومفندة من قبل الإعلاميين الغربيين عمومًا. وكانت لنا، نحن الصحافيين العرب الذين غطوا الحرب من كييف ومن الحدود مع أوكرانيا، قدرة على ترجمة هذه المقاربة في التغطية، متسلحين بخبرة عَيش الحروب كمواطنين وكصحافيين في بلداننا.

في السابع من أكتوبر الجاري، وقفت بريطانيا وإعلامها، باستثناء بعض المنابر المؤيدة للحق الفلسطيني، إلى جانب إسرائيل. موقف لا لبس فيه، ومتوقع. قال ريشي سوناك، رئيس الوزراء البريطاني: نقف إلى جانب إسرائيل، وأضاء المباني بالعلَم الإسرائيلي.

لم تسقط وجوهنا من الصدمة. لكننا انتظرنا، وربما بسذاجة، أسئلة من الإعلاميين البريطانيين أكثر إلمامًا وإحاطةً بالحدث وبالسياق، أو على الأقل أسئلة لا تعبّر عن جهل أو انحياز فاضح لا يليق بإعلاميين "أذكياء يتدثرون بالموضوعية".

أكثر من ضاق ذرعًا بذلك، هو رئيس البعثة الدبلوماسية الفلسطينية في بريطانيا، السفير حسام زُملط. كل المقابلات، التي لم يتوانَ عن تلبيتها لرفع صوت الفلسطينيين في الإعلام البريطاني والغربي، بدأت بسؤال، هو نفسه، لم تتغير صياغته رغم تبدل المحطات والمحاورين: "هل تدين الهجوم غير المسبوق الذي شنته حماس على إسرائيل وأدى إلى وقوع قتلى وجرحى وأسرى إسرائيليين؟".

هذا السؤال، له جَذران. الجذر الأول، اعتقاد المذيع أن الاقتباس الذي سينتج عن إجابة السفير سيشكل عنوانًا ويؤدي إلى تفاعل وردّ على الردّ، بالإضافة إلى تفاعل المتابعين عبر المنصات. الدافع هنا، هو اعتقاد المحاوِر أنه بالفعل سيتمكن من انتزاع موقف من مسؤول في السلطة الفلسطينية يدين حماس.

والجذر الثاني، هو رغبة المُحاوِر في وضع الضيف والمقابلة على "السكة الصحيحة" منذ البداية. أن نبدأ من إدانة حماس، ثم نواصل الحديث عما خلفه هذا الهجوم وأثر ذلك في السلطة الفلسطينية "رهينة حماس" وغيرها من المصطلحات التي وردت في بعض هذه المقابلات.

غاية السؤال تحديد سياق المقابلة إذاً، وتوجيه الضيف نحو الحديث عن كل شيء ولا شيء في آن معًا، لا سيما إذا جاءت المقابلة مع السفير الفلسطيني بعد الضيف الإسرائيلي.
الجَذران يصبّان في خندق واحد.

لكن "سعادة السفير"، الذي أسعد متابعين عرب في بريطانيا وغيرها من الدول الأوروبية بردّه وأسلوبه، كان حاضرًا ليلتقط كل الكرات التي ألقيت نحوه وردّها على مطلقيها. أظهر قدرة على إعادة تحويل مسار مقابلات بأكملها، بدءًا من السؤال الأول حتى الختام. ولعل أبرزها، المقابلة التي أجراها مع مذيع "بي بي سي"ن لويس ڤون جونز، إذ نجح زملط في تنفيذ استدارة "U-Turn"، أظهر خلالها مهارات على أكثر من مستوى، أداءً ومضمونًا.

لم يقدم انفعالات لا تفيد. وفَّر الابتسامات حيث يجب. حافظ على رخامة صوته. لم يخرج، حتى عند تشديد بعض العبارات، عن الهدوء المقصود. وبأسلوب نفهمه نحن أيضًا، لم يبخل برفع حاجب مع نظرة بطرف العين إلى المذيع الذي بقي صامتًا في الدقائق القليلة الأخيرة من المقابلة مستسلمًا لفشله في الانتصار لسؤاله الأول: "هل تدين حماس، سيد زملط...".

كان السفير مستعدًا ومباشِرًا بالقول إن هذا السؤال غير مهم، طالما أن الإجابة عليه لا تفيد قضيتي وغايتي. والإدانة التي تسعون إليها لا تعنيني ولم آت من أجلها، أنا هنا لأذكّركم بسردية أخرى تبدأ بإنهاء الاحتلال والالتزام بالقوانين الدولية. قال لهم: أنا هنا لأَنسَنة الخبر الذي تريدونه إنسانيًا بلون واحد.

في اللحظات التي امتلك فيها السفير زملط الدفة كاملة، خلال مقابلته مع "بي بي سي"، نبّه مُحاورَه متسائلًا: هل تستضيف السفير الأوكراني وتطلب منه إدانة هجوم نفذه مقاتلون من بلده ضد روسيا؟

لم يقدم السفير الفلسطيني نسخة يرغبها الإعلام الغربي، بل أربك محاوريه بسردية لا يريدون أن يسمعوها بنسخة فلسطينية قحّ. بدا واضحًا أن السفير زملط، الذي يكمل في أكتوبر هذا العام، خمس سنوات في منصبه، ودرس في بريطانيا لسنوات قبل ذلك، يعرف مَن يحاورُه ومَن يسمعُه. إنه وفق عبارة لصديق مصري "مذاكِر كويس".
 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها