السبت 2021/07/24

آخر تحديث: 08:13 (بيروت)

روسيا تحظر الشتيمة وتحذر من الدولار

السبت 2021/07/24
روسيا تحظر الشتيمة وتحذر من الدولار
increase حجم الخط decrease

في أوائل الشهر الجاري  وقع الرئيس الروسي وثيقة "إستراتيجية الأمن القومي للإتحاد الروسي"، وهي الثالثة منذ وصول بوتين إلى الكرملين مطلع القرن الحالي. الوثيقة الواقعة في 41 صفحة( 9 آلاف كلمة) تعدد عشر أولويات قومية إستراتيجية لروسيا: الحفاظ على الشعب، الدفاع، أمن الدولة والمجتمع، الأمن الإعلامي، الأمن الإقتصادي، التقدم العلمي التكنولوجي، الأمن البيئي، حماية القيم التقليدية، الإستقرار الإستراتيجي. تركز الوثيقة على الجوانب الأخلاقية للأمن القومي، وتؤكد على ضرورة الحفاظ على الإرث الثقافي والتقاليد الروسية القديمة، ومحاربة تراجع المستوى الأخلاقي في العلاقات العامة وسيادة لغة الشتيمة البذيئة وضرورة حظرها. كما لا تنسى في حقل الأمن الإقتصادي من أن تعبر عن حذرها من الدولار الأميركي، وتؤكد على ضرورة خفض التعامل به في نشاط روسيا التجاري الخارجي.

إلى جانب التبخير والثناء من إعلام السلطة وكتابها، تفاوتت آراء المواقع والكتاب السياسيين الروس الآخرين في الوثيقة، بين من إعتبرها تجديداً لإستراتيجية 2015 التي صدرت بعد ضم القرم إلى روسيا، ولا جديد تحمله، ومن إعتبرها مختلفة كلياً عنها، بل وتشكل "بيان عصر جديد" غادرت فيه روسيا ما تبقى من مرحلة التسعينات من خطاب ليبرالي، وأعلنت العداء المطلق للغرب وقيمه. 

مدير برنامج "السياسة الروسية الداخلية والمؤسسات السياسية" في مركز "كارنيغي" موسكو، ورئيس التحرير السابق لصحيفة "Novaya" المعارضة أندريه كالسنيكوف، وفي مقابلة مع قناة التلفزة المعارضة "Dojd"، تأسف على الوقت الذي أضاعه في قراءة الوثيقة كما طلبت منه القناة، وقال بأن قراءتها تنقلك إلى تيوقراطية قروسطية تدافع عن نفسها من مخاطر متوهمة خلف أسوار متخيلة محاصرة فيها من الجميع. ووصف الإستراتيجية بأنها "الظلامية بعينها" التي تتكثف من استراتيجية إلى أخرى. وقال بأن من كتب الإستراتيجية هم قدماء الأجهزة الأمنية وKGB الذين اعتادوا قمع الحريات وملاحقة المنشقين عن السلطة السوفياتية وتسلموا السلطة العام 2000. وهم يعبرون في الإستراتيجية عن هواجسهم القديمة وقيمهم التي ينسبونها إلى الشعب الروسي، ويصورون للروس بأنها مخاطر إستراتيجية تحدق بهم من كل صوب، ويتولون هم الدفاع عنهم، في حين أنهم لا يدافعون سوى عن أنفسهم ومصالحهم في السلطة ضد مخاطر يختلقونها. 

مدير مركز كارنيغي موسكو دمتري ترينين لا يوافق مع كالسنكوف ويعتبر أن الإستراتيجية الجديدة ليست نسخة مجددة للإستراتيجية السابقة، بل هي إعلان بداية عهد جديد. ويرى أن الهدف الرئيسي للإستراتيجية هو جعل روسيا تتكيف مع العالم الذي لا يزال مترابطاً، لكنه يعاني من عملية التجزئة والتفكك، مع أن الخطوط الجديدة للجبهة لا تمر بين البلدان بقدر ما تمر داخلها. ولذلك باتت الإنتصارات والهزائم تمر في معظم الحالات داخل أسوار البلد عينه.   

ويرى ترينين أن الإستراتيجية هي وثيقة ذات أهمية خاصة، وليس تجديداً بسيطاً لإستراتيجية العام 2015. فالعلاقات مع الغرب، مع أنها كانت قد ساءت في ذلك الحين بسبب الأزمة الأوكرانية، لكن ليس نهائياً. وكانت لا تزال لغة إستراتيجية 2015 تحمل لغة ليبرالية موروثة من حقبة التسعينات، وكان العالم يبدو واحداً. 

أما النسخة الحالية للوثيقة الإستراتيجية الأهم فقد ذهبت أكثر من السابقة باشواط في توسيع مفهوم الأمن القومي. فهي لا تتناول الأمن القومي فقط، بل تتناول مسائل أخرى عديدة من الإقتصاد والبيئة إلى القيم الروحية التقليدية والدفاع. ففي ظل إحتدام المواجهة المتواصل مع الولايات المتحدة وحلفائها، تعلن السلطات الروسية بلا مواربة أن البلاد تعود إلى القيم التقليدية، وأن قضايا مثل تقدم التكنولوجيا وتغير المناخ تصبح مقررة لمستقبلها. 

يرى واضعو الإستراتيجية أن ريادة الغرب تقترب من النهاية، وهذا بالذات ما يؤدي إلى تزايد الصراعات وإحتدامها. إن مثل هذه المزاوجة بين تفاؤل تاريخي (توقع نهاية ريادة الغرب) والقلق العميق (الغرب سوف يقاوم بعنف متزايد) يذكر بمسلمة ستالين من أن الصراع الطبقي يحتدم أكثر كلما تقدمت الإشتراكية.

وتقول الإستراتيجية الجديدة أن ضغط الغرب على روسيا يتخذ أشكالاً مختلفة. فهي تصطدم في الإقتصاد بمنافسة غير نزيهة على شكل قيود كثيرة تهدف إلى الإضرار بها وإعاقة تطورها. وفي حقل الأمن يتزايد خطر المجابهة العسكرية. في مجال الأخلاق تتعرض للهجوم القيم الروسية التقليدية والإرث التاريخي، وتجري محاولات لتشويه تاريخها. وفي السياسة الداخلية تجد روسيا نفسها مضطرة للتعامل مع التدخل الأجنبي الذي يرمي إلى زعزعة إستقرار البلاد. علاوة على ذلك، تعتبر الإستراتيجية أن جميع هذه التهديدات متنامية وطويلة الأمد.

الإستراتيجية الجديدة، إذ ترسم هذا المشهد الصادم، تعول على روسيا نفسها في التعامل معه: الديموغرافيا، الإستقرار السياسي، السيادة، السلام بين الإثنيات والتقدم الإقتصادي على أساس التكنولوجيات الجديدة. وتفرد مكاناً خاصاً للإهتمام بالمناخ الأخلاقي في البلاد، وترى أن القيم الروسية التقليدية مهددة بالإنبهار بالقيم الغربية الذي قد يحرم روسيا من سيادتها الثقافية.

لكن ترينين يرى أن الوثيقة تتغاضى عن عامل أساسي هو في أساس الكثير من مشاكل روسيا الإقتصادية والإجتماعية: ليس لدى الغالبية العظمى من النخبة الحاكمة أية قيم غير القيم المادية. فروسيا تحكمها طبقة غالبيتها العظمى لا تخدم سوى مصالحها الخاصة، وتسعى للإثراء الخاص دون الإهتمام بالمجتمع. فالأموال، والأموال الكثيرة، أصبحت القيمة الرئيسية لهذه المجموعة والعامل الأكثر هدماً في روسيا المعاصرة. 

لا تولي الإستراتيجية إهتماماً تفصيلياً بالسياسة الخارجية، وتصنف الولايات المتحدة وبعض حلفائها في الناتو "دولاً غير صديقة". ولم تعد العلاقات مع الغرب أولوية لروسيا، بل أصبحت الأولوية للعلاقات مع الصين والهند وبلدان منظمة شانغهاي وبلدان مجموعة BRICS وبلدان أخرى في آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية. 

ليست القواعد الأميركية وتحالفات واشنطن وحدها أدوات تحجيم روسيا، بل تضم إليها الإستراتيجية الجديدة شركات الإنترنت الأميركية العملاقة التي تحتكر الفضاء المعلوماتي، وتضيف إليها الدولار الأميركي المهيمن على النظام المالي العالمي. 

أحد تشعبات الخدمة الأوكرانية في راديو "الحرة" "Krim.Reaili" نشر نصاً بعنوان "من الطموحات العالمية إلى العزلة الذاتية: خبراء عن الإستراتيجية الجديدة للأمن القومي لروسيا". اكتفى الموقع بتقديم موجز لآراء عدد من الخبراء والكتاب السياسيين الروس في وثيقة الإستراتيجية الجديدة، كان أبرزها لنائب الشؤون العلمية لمدير مركز "ليفادا" للإحصاء واستقصاءات الرأي العام ليف غودكوف.

يقول الرجل بأن التوجه الرئيسي للإستراتيجية هو تشديد مركزية السلطة وتعزيز تحكم الدولة بمختلف مجالات الحياة الإجتماعية، بما فيها الإقتصاد، الثقافة وقضايا الأخلاق وسواها. وكل ما يتعلق بالإقتصاد وهجرة الأدمغة والحلول المبتكرة وتطوير التكنولوجيات لن ينفذ منه شيئاً، حيث لا رغبة في ذلك ولا موارد ولا إمكانيات. والحديث يدور عن العودة إلى النموذج السوفياتي في فرض تحكم الدولة الشامل بمختلف مجالات المجتمع. وبما أنه ليس من أفكار جديدة، بل اشياء متوهمة على غرار القيم الروحية التقليدية، يتم إعلان التهديد الخارجي والسياسة العدوانية لبلدان الغرب والصراع من أجل الأمن ومحاربة تهديدات متخيلة العامل التوحيدي الرئيسي. 

ويرى غودكوف أن الإستراتيجية الجديدة هي محاولة لصياغة أكثر وضوحاً لأيديولوجية الدولة التي تفترض إخضاع مصالح الفرد بشكل كامل لمصالح الدولة. جميع البلدان لم تتطور إلا حين أصبحت أكثر إنفتاحاً وتعاونت مع بقية البلدان وانخرطت في الإقتصاد العالمي، وليس حين أقفلت على نفسها. ويقول بأن المسؤولين والأمنيين هم ركيزتا الدولة الروسية، وعلى بقية الروس أن ينصاعوا صامتين.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها