الأربعاء 2015/07/29

آخر تحديث: 16:01 (بيروت)

نسيب الغريب

الأربعاء 2015/07/29
نسيب الغريب
increase حجم الخط decrease
هل شاهدت الموت؟ هل عشت معه؟ هل تآلفت؟ هل تعتقد بأنك تستطيع إكمال حياتك هكذا؟ هل تحتاج إلى إستراحة؟ هل يمكننا البدء بالمفاوضات؟

نحن لا نفهم عليك. بصراحة لا نفهمك. أنت غامض. لم نستطع معرفة طلبك. أنت ضللتنا. ألا تريد إيقاف الحرب؟ ألا تريد ان ترتاح؟ لقد تعبت أسلحتنا. تعبت منك. انت لا تموت. تسقط فحسب. يحملونك من سقوطك. يجتازون بك ممراً قاتلاً. يموتون على الطريق. كي يوصلوا موتك بأمان إلى التراب الحار.

أنت غير مفهوم. لم نعرف حتى نوع الحرية التي طالبت بها. لم يشرحها لنا أحد. لكن أعداءك برعوا في شرحها لنا. بصراحة هم يعرفونك أكثر مما تعرف نفسك. لأن الملفات عندهم. والتقارير عندهم. يعرفون كل شيء عن كل شيء. وأكثر شيء يعرفونه هو أنت. هم مختصون بك. متخصصون بترويضك. حتى لو لم تحاول التمرد.

هم المكلفون منذ نصف قرن بمهمة قتلك. لكن المشكلة هي أنك لا تموت. لا تنتهي. باقٍ وتتمدد. رغم أنك فركتها أيضاً. لم تستطع كل سفارات الأرض أن تشعرك بالإحباط. لم يتمكن  كل خفر السواحل والحدود من ردعك. ولم يستطع الشبيحة هَزْمَكْ.

لكنك انهزمت. وليت الادبار كما يقولون. صرت خارج الديار. وصارت هواجسك هي البحث عن وطن. وطن آخر. وطن جديد. وطن مدهش. وطن ينظر فيه السكان الأصليون إليك باهتمام. أو هكذا يخيل إليك.

لكن لا. ما حدا رح يقلك صباح الخير غير مُحاسبة السوبر ماركت. وما حدا رح يدق عليك الباب غير صاحب البيت راس كل شهر. وما حدا رح يرنلك عالموبايل غير أمك من قلب الحدث. من تحت سقف الوطن. أنت هنا نفر. رقم. كتلة. كائن غامض. لا أحد سيكلف نفسه عناء التعرف على شخصيتك. ناس ما عندها فضول متلنا. يعني فيك تسكن ألف سنة بحارة بباريس بدون ما حدا يشتلق على أنك غريب.

أصلاً كلهم غرباء. وعلى قولة امرؤ القيس أو الملك الضليل. الذي استنفر ومضى إلى قيصرا. يعني القيصر. مو أقصراي ساحة التهريب باسطنبول. لا قيصر الروم. راح لعنده مشان يرجعه ملك. بعد ما طار أبوه شر طيران. وقتها وصله الخبر وهو في الحانة مع رفاقه يسكر. ولم يشأ أن يعكر الخبر سهرة الأصدقاء. فقال جملته الشهيرة: اليوم خمر وغداً أمر. ودقت الكؤوس حتى الصباح ببعضها البعض.

ثم انطلق امرؤ القيس إلى أوروبا من شبه الجزيرة العربية باحثاً عن المُلك الضائع. وأخذ معه رفيقان كي يخاطبهما كل دقيقة: قفا نبكي.. فيقفان. ويجهش الثلاثة بالبكاء. يتذكرون أيام العز الخوالي. والرفيقان يتذكران أكثر من امرئ القيس. يتذكران كيف أنَّ ابن الملك كان صديقهما. وكيف أنه الآن بحكم الملك. لكن بدون حكم. فما الحكمة من احتلال الناس بكرسي أو عصا؟!

وفي البوادي والسهوب أثناء طريق العودة إلى الديار بخفي حنين شاهد امرؤ القيس قبراً مكتوب عليه اسم أميرة رومانية تمردت على والدها الملك فدفنها في صحراء عندما ماتت كي تكمل حياتها الإنفرادية التي عوقبت بها كل عمرها.

وكتب لها هذه القصيدة بعد أن طلب من رفيقيه أن يدفناه بجانبها:

أجارتنا إن المزار قريبُ         وإني مقيم ما أقام عسيب
أجارتنا إنا غريبان هاهنا        وكل غريب للغريب نسيبُ

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب