الخميس 2023/07/20

آخر تحديث: 21:35 (بيروت)

هوية من النظرة الأولى

الخميس 2023/07/20
هوية من النظرة الأولى
"من خلف نافذتي الكندية" (تصوير: عزة طويل)
increase حجم الخط decrease
توجّب عليّ مؤخّراً أن أختار بين حضور فعاليات "اليوم الوطني لكندا" في بلدتي الكندية الجديدة، وبين حضور فعاليات "معرض الكتاب العربي الأوّل في تورونتو". حضور الحدثين معاً غير واردٍ بسبب المساحات الخضراء الشاسعة التي تبعد مكان إقامتي عن تورونتو، والتي تزيد جذرياً من خطر أن أغفو وأنا أقود على الطريق السريع.

توجّب عليّ اليوم الاختيار بين الاحتفال الثقافي بالبلد الجديد الذي فتح لي أبوابه، وبين ثقافة بلادي الأخرى، البعيدة القريبة، صاحبة اللغة التي أحبّ والتي تعينني على التعبير عن مكنوناتي. لم أستطع الاختيار بسرعة، وحين شعرت بأنني أكاد أتفادى الحدثين لأنزويَ في سريري وأعتّم غرفتي، شرعتُ في كتابة هذا النص. القضيّة قضية هويةٍ لم تتواءم بعد، والأغلب أن في الأمر جرحاً لم يلتئم.

كندا
في كندا المستفزّة بتقلّبات طقسها المتطرّف، وفي أونتاريو تحديداً التي يقودها رجل أعمالٍ يضمن لك ألا تفتقد شبهات الفساد العاصفة بحكّامك، واختلاط السياسة بالدولارات، وحيث غلاء المعيشة يُطلِق صرخات الحناجر الكندية، والخصخصة تتسلّل إلى النظام الصحي، وحرائق الغابات المستعرة تعيدنا لاستخدام ما تبقّى من كمّامات كورونا… هنا تحديداً، في البلاد التي وصلتُها قبل عامٍ فقط، لمَ قد أرغب في الاحتفال بيوم كندا الوطني؟

هنا في هذه البلدة، حيث لا أهل لي ولا معارف، ولا تجربة كنديّة تدعمني، ولا ثراء مادياً يسهّل أعمالي، انخرطت في مجلس برايتون للثقافة والفنون (BACC) فصوّت لي أعضاؤه لأمثّلهم في المنطقة كعضوة مجلس إدارة. لم يحاول أحدهم استبعادي، ولا شهدتُ حروباً انتخابية تشيطن الآخر، ولا دسائس ولا موائد احتفال ما بعد الانتخابات كما يحدث في عالم الثقافة العربي. دخلت إلى القاعة كوافدة جديدة، وخرجت منها كواحدةٍ من أهل المنطقة، بتأكيدٍ واضحٍ منهم. وهؤلاء الناس أنفسهم يحتفلون بالعيد الوطني لكندا، ويعرضون أعمالهم الفنية ويستقطبون الفنّ، لا الاستعراض: رسم وتصوير وأدب ونحت وغيرها، والباب مفتوح لكلّ من لديه محتوى إبداعي يقدّمه.

هنا أيضاً تمّ الاحتفاء بالصور التي تلتقطها عدستي، فاهتمّت المكتبة العامّة بعرض بعض هذه الصور إلى جانب لوحاتٍ وصورٍ مميّزة لفنانين محليين. وحين أجبت عن سؤالٍ حول المبلغ الذي سأحدّده مقابل هذه الصور، بأني لا أريد مردوداً مالياً، منعوني من وهب أعمالي وأصرّوا على أن للفنّ قيمةً لا يمكن أن تقدّر بصفر.

الصورة ليست كلها بهيّة
ليست الصورةُ بهيةً في كندا، يذكّرك بذلك شعبٌ كامل يرزح تحت ثقل الديون، ويُمنح كلّ فردٍ منه علامةً تقيّم قدرته على الاستدانة، وبالتالي قيمته كإنسان يمكن التعامل معه. لن يمنحك أصحاب البيوت فرصة استئجار منازلهم أو شرائها إذا كان مجموعك متدنّياً، ولن تتمكّن من اقتناء سيارة بالتقسيط وبسعرٍ طبيعيّ. كما أنك في جميع الأحوال ستضطرّ إلى فتح حسابٍ لأولادك كي تجمع لهم عشرات آلاف الدولارات التي سيكلّفها تعليمهم الجامعي، فتنقذهم بالتالي من مستقبلٍ يبدأ بالدَّين الكبير. والقادم الجديد، وهو تعبيرٌ معتمدٌ من الناس جميعهم هنا، يهدف إلى تمييز مئات آلاف المهاجرين الذين لم يتمّوا عامهم الثاني في كندا، ذلك أن شروط التعامل (غير الرسمية) التي تُطبّق عليهم مختلفة وتضمّهم جميعهم في خانةٍ واحدة تختصرهم في رقم.

ليست الصورةُ بهيةً في كندا، ذلك أنك ترى الشباب الكندي (وغير الكندي طبعاً) متناثراً على أرصفة المدن الكبرى، مستسلماً بالكامل لتأثير الجرعة الأخيرة من الهيرويين. وتسمع عن مدير مدرسةٍ قريبةٍ ظلّ يغتصب تلميذته المراهقة لسنواتٍ مستخدماً الكوكايين والخمور والحشيش، واستغرقت محاكمته خمس سنواتٍ على الأقلّ رغم توافر كلّ الأدلّة المطلوبة.

لكن هنا أيضاً، يستيقظ طفلاي كلّ صباحٍ مفعمَين بالحماسة ليومٍ مدرسيّ جديد، ويجرف جارنا الثلج في مدخل بيتنا من دون أن نطلب منه ذلك، وثمة طبيعةٌ خلّابة أيضاً. كما أنني، منذ وصولي، أطلقت حملاتٍ حقوقيةً متتاليةً تندّد بقرارات رئيس حكومة أونتاريو الأخ السيّد دوغ فورد، وأحياناً تنتقد قرارات رئيس الحكومة الفيدرالية جاستن ترودو، وتُحرّك الجماهير بعرائض تجمع عشرات آلاف التوقيعات.. ولم أجد عشرات "البوستات" تنهال عليّ بالإساءة والإهانة، كما حدث يوم انتقدتُ في مقالٍ لي تصرّفات "حزب الله"، فوصلتني رسائل وبعضها من أقرباء لي، تقول: "كيف كنتِ شفتي الجنوب بدونهم؟ كيف إلك عين تحكي؟". لا أذكر حتى ما كان موضوع الانتقاد وقتها، لكني أعلم أن لا أحد هنا قال لي: "ما كنتِ شفت كندا بدون ترودو، كيف إلك عين تحكي". أقرأ خبر الحكم على ديما صادق بالسجن لمدة عامٍ بسبب وصفها لتصرّفات التيار الليموني بالنازية، وتصيبني قشعريرةٌ لبنانية-كندية جديدة عليّ: هنا لا يحدث ذلك. ما الذي يردعهم، هنا؟ أفكّر، ويأتيني الجواب: الناس أنفسهم، هؤلاء الذين يتمّ إنهاكهم معيشياً، رويداً رويداً، ما زالوا قادرين على الرفض. من الأفضل للمرء أن يعيش ضمن مجموعةٍ ما زالت قادرة على الرفض.

لكن هذا طبعاً غير كافٍ للشعور بالانتماء، كما أن انتماءً ينمو في سنةٍ واحدة قد يجلب الكثير من الخذلان في ما بعد، كالحبّ من النظرة الأولى. ونحن اللبنانيين قومٌ نحتاج بشكلٍ عام إلى كلّ ذرّة أملٍ تعترض طريقنا، لذا قد يصيبنا وهم الانتماء من النظرة الأولى، أو السنة الأولى، بسهولة.

وما خيار الاحتفال، في النهاية، باليوم الوطني الكندي سوى أحد أعراض هذا الداء المحتملة. 
 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها