الخميس 2022/12/29

آخر تحديث: 18:53 (بيروت)

في انتظار "سانتا" الكنديّ

الخميس 2022/12/29
في انتظار "سانتا" الكنديّ
increase حجم الخط decrease
تبلغ ابنتي من العمر سبع سنوات. قضينا معاً تلك السنوات بمحبةٍ شغوفة، لكنني أفترض أن طفلتي تحمّلت خلالها ما كان بودّي أن أجنّبها إياه. صدمة الأمومة الأولى ولقائي الأول مع الطفلة التي كنتُها يوماً والمدّة التي استغرقتها لاستيعاب ذلك. علاقتي مع المنازل والطبخ وعملي وانشغالاتي وتقلّبات مزاجي. وأمور كثيرة أخرى بدءاً من صدمة الانفجار الكبير في بيروت، إلى الانهيار الأكبر، إلى "كورونا" وهجرتين متتاليتين بين بيروت واسطنبول وكندا، وكل ما يتأتى عن ذلك من انفصالٍ وضغطٍ وضياع. 

لم تتشبّه ابنتي منذ اللحظة الأولى بالصورة التي كنتُ قد رسمتها لها في خيالي. لم تكن تنام حين أهدهدها، كما أنها كرهت الموسيقى الكلاسيكية فيما أحبّت أغاني الفولكلور الصاخبة. كانت تصرخ في كرسيّ السيّارة دون توقّف، ولم تبالِ لعُشر ثانيةٍ حتى بصور الأمّهات اللواتي "يكزدرن" بهدوءٍ مع أطفالهنّ في المقعد الخلفيّ. كنت أتخيّلها منذ علمتُ بوجودها، لكنّها تحدّت خيالي كما درجَت أن تفعل في كل مرة حاولتُ فيها توقّع أيّ شيء يخصّها، في ما عدا شعرها المكلكل وهو التوقّع الوحيد الذي أصاب. وما زالت ابنتي، كل يوم، تؤرجحني بين الخيال والواقع. 

أمام شجرة الميلاد الحيّة وقفنا حين استيقظَت صباحاً. للشجرة هذا العام رائحةٌ مختلفة تماماً. رائحة الصنوبريّات النديّة تملأ أنفي فتنعشني وتأخذني إلى غابةٍ فسيحةٍ تجري فيها حيوانات الرنّة. للميلاد هذا العام لونٌ مختلف أيضاً. أفتح باب المنزل الرئيسي، فالشجرة وزينتها والهدايا تحتها، في البهو هناك. أفتح الباب وإذا بأبيض رماديّ يحتلّ الرؤية. ثلجٌ ناعمٌ طريٌّ يعلو أمام الباب ويمتدّ على طول الشارع، والشارع المقابل، وما بينهما. الشمس لم ترتفع في السماء بعد، والضوء في الخارج ما زال حالماً. أضواء زينة الميلاد تخرق رماد المشهد وتلوّنه بخيوط رفيعةٍ من الفرح تنعكس على جليد الأسطح وتتكسّر فيتلألأ المشهد كالألماس. 
- ماما، هل جاء بابا نويل؟ أعتقد أنني سمعته.
في الليلة الفائتة انتظرتُ نومَ صغيرَيّ كي أغلّف لهما الهدايا. لم يكن لديّ ورق هدايا والعاصفة الهوجاء الممتدة منذ يومين منعتني من الخروج. لا دليفري هنا، بعكس ييروت، حيث يكلّفك جلب أي شيء اتصالاً هاتفياً واحداً فقط. توجّب عليّ إيجاد حلولٍ ليلة العيد وكان على تلك الحلول أن تكون مقنعة. وها قد آن أوان المواجهة مع مدى نجاح محاولاتي. 
- ماما، سانتا استعار أكياساً منّا.

لدينا ألف كيس وكيس، كما أنني اخترتُ أقدَمَها بعناية، لكن بنت الملعونة تذكّرتها بمجرّد أن رأتها. 

- أعتقد أن سانتا يعتمد سياسةً بيئية تجعله يتجنّب الهدر في ورق الهدايا. أتدركين عدد الأشجار التي تُقطع لتأمين كل ذاك الورق؟ 
في ليلة العيد، رقصنا كثيراً لأن بابا نويل يحبّ البيوت الفرحة ويأتي إليها أولاً. نفخنا بالوناتٍ وحضّرنا قالب حلوى وضعنا كلّنا أيدينا في تحضيره وقرّرنا ترك قطعةٍ منه للرجل الثخين ذي اللحية البيضاء. شاهدنا على الأخبار الكندية أيضاً عربةَ سانتا تجرّها الرنّة وتتبّعنا اقتراب وصولها إلى القارة الشمالية. تخّيلتُ أننا جميعاً نفعل ذلك من أجل إبني الذي ما زال يؤمن بالسحر والمعجزات. 

ذلك أن ابنتي تعلم أن سانتا لا وجود له. تعلم ذلك لأن رحلة واحدة في الطائرة بين بيروت وكندا تستغرق أربع عشرة ساعة، فكيف برحلةٍ حول العالم على عربة. كما أنها تعرف أن الجيّد والكالح يلتقيان في شخصٍ واحد، وأن لا أطفال جيّدين وآخرين غير جيّدين. في النهاية، تشير الأرقام إلى أن غالبية الأولاد حول العالم يدركون أن بابا نويل نسجٌ من خيالٍ بحلول عامهم الثامن. 

لكنها قرّرت أن تتجاهل معرفتها تلك تماماً، وقد خُيّل إليّ هذا الصباح أنها تفعل ذلك من أجلي. قبل أن تنام ليلاً، وضَعَت الآيباد في مواجهة الشجرة لكنها لم تشغّل الكاميرا فيه. سألتني قبل النوم كيف سيلتقط الآيباد صورة سانتا وغطسَت في نومٍ عميق قبل انتظار الإجابة حتى. 
إذاً في الليل، جهّزتُ الهدايا في أكياسٍ وكتبتُ رسالةً صغيرةً على كلّ منها. حرصتُ بالتأكيد على أن أترك قصاصةً على الآيباد تقول: لم أكن لأتركك تصوّريني، هو-هو-هو. 
- ماما، سانتا مضحك. نظرَت إليّ صباحاً بتواطؤٍ حنون بعد قراءة القصاصة. 
تعلم ابنتي أن لا وجود لبابا نويل، كما تعرف تماماً أن لا وجود للحبّ المطلق الدائم، ولا للسعادة الأبدية. لا أعرف كيف حدث ذلك بالضبط، لكن سبع سنواتٍ على هذه الأرض تبدو كافية ليسأل المرء نفسه أسئلة وجودية كهذه، وإن كان طفلاً. 

تعلم طفلتي أن السحرَ خلقٌ ينبع من القدرة على الإقناع. تدرك أن الواقع بعيدٌ عن الخيال، لكنها تذكّرت أن باستطاعتنا المزج بينهما متى أردنا، شرط أن نتمكّن من الاقتناع. 

تعرف صغيرتي أن السعادةَ لحظاتٌ، وقد اختارَت في هذا الصباح الأبيض الجليدي أن تمنحَنا سحر تلك اللحظات، في ما بدا لي أشبه برقصة حبٍّ بين الخيال والواقع. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها