السبت 2023/04/01

آخر تحديث: 00:02 (بيروت)

حين أفصحتُ لأمي: أريد أن أكون بوذا

السبت 2023/04/01
حين أفصحتُ لأمي: أريد أن أكون بوذا
increase حجم الخط decrease
لا أعرف، حتى الآن، ما الذي جعلني أقرّر يومها أني أرغب في أن أكون بوذا. بوذا الذي يتخطّى كل الصعاب، والمعروف بحكمته، وصبره، ويقَظَته. لم يكن دماغي يفقه كلّ هذه الصفات المعقّدة بالطبع، لكني كنت أعرف يقيناً أن بوذا قويٌّ وحنونٌ في الوقت نفسه، وأن قدرته على مسامحة من يؤذونه مرتفعة للغاية.

لم يكن ليخطر لي حينها أن ثمة ملايينَ يعتبرون بوذا إلهاً، إذ كان الله واحدٌ أحد ولم قد أكن وعيت بعد الاختلافات بين الأديان ومعانيها. كما أن بوذا ثخين، ولا شيء يقرّبه في مخيّلتي إلى صورة الله. إنما علقت في ذهني صورة الإنسان القادر على الترفّع عن الأذى الذي يلحقه آخرون به، عبر فعل الغفران. أُخذتُ بالمقدرة على الغفران، ولم أعلم يومها أيضاً أن الغفران عملٌ يقوم به المرء تجاه نفسه أيضاً.

في صغري، عرفت يقيناً أن الأذى موجود، وأن على الفرد أن يختار طريقة التعامل معه: ثمة مَن يختارون الكره والانتقام، وثمة مَن يعتمدون التغاضي، وآخرون يصيبهم التشتّت العاطفي، فيما قلائل يسلكون سكة الغفران. وحين كبرتُ، تأكّّدت أكثر من كساد تلك السكّة، كما تأكّدت من أن إحساس الطفولة بالأشياء هو الأصدق قاطبةً. يعرف الطفل أن ثمة خطباً ما، حين يكون ثمة خطبٌ بالفعل، كما أنه يعرف من أين يأتي هذا الخطب. يكوّن رأياً يتجذّر في خلايا جسمه حتى يعتقد مثلاً، مثلي، أن ثمة بوذا صغيراً يكبر في داخله.

من الآن فصاعداً، سأسمّيه "السيّد غفران" أكثر من "بوذا"، حفاظاً على مخيّلتي تلك. وسأدعوه بوذا أحياناً أيضاً، وفاءً لحَرفيّة الذكرى.

في صغري ارتدتُ مدرسةً متديّنةً لفترةٍ. كنّا نؤذّن في الصفّ فنُعطى مبراةً جميلةً، أو ممحاةً أو مسطرة. وهكذا ارتبط الآذان في رأسي بالهدايا. آثرت تلك المدرسة ربط ذكر الله بالهدايا المادية، وبمنطق المكافأة. أَبدِل/ي كلّ آذانٍ أو اثنين، ببعض القرطاسية الملوّنة، وسيتجذّر فيك الخير وحبّ اللّه. منطق المكافأة أحد مآزق الأديان الكبرى، لكأن المرء غير قادرٍ- خَلقياً وخُلُقياً- على العطاء خارج منطق المكافأة والرياضيات البسيطة. تعدك النصوص بنقاطٍ يمكنك تبديلها في الآخرة فتربح مكافأة الجنّة. ثم، أن لم يعدِلوا في توزيع المكافآت، أعطوا بعضنا فرصاً أكثر من بعضنا الآخر، على مرأىً منّا جميعاً، فضربوا المعادلة كلّها وأسقطوها كلياً من خيالي.

المهمّ أنهم، في تلك المدرسة، لم يُدخلوا إلى ذهني الغفران بأيّ شكلٍ من الأشكال. إفلح، ولك حسابٌ مفتوح، قالوا. أما بوذا/السيّد غفران، فحكى عن المغفرة، وكانت آفاق ذهني مفتوحةً في تلك اللحظة عندما وصلتني كلماته، ولم أحتَج إلى آلةٍ حاسبة.

امتلأ صدري يومها بذاك "التعريم" الذي يعتري من وجد الحلّ. نعم، حللتُ المعضلة، والحلّ هو الغفران. إن وُجِدتَ يوماً أيها الآدميّ في مأزقٍ ما، ولم تستطع فكاكاً، فأمامك طريقان لا ثالث لهما: مُت… أو إغفر. وبما أن الموت ليس حلاً، يبقى أمامك حلّ واحدٌ لا شريك له.

هكذا، رحت أتخيّل كيف سأتحدّى كلّ الصّعاب مهما كبُرَت أو صَغُرَت، ولم أختر أن أُدر وجنتي الأخرى، ولا أن أمشي على خطى فتح الأندلس، ولم أدخل نفسي في متاهات الهند أو الصين أو اليابان. أقنعنتي جملةٌ واحدةٌ من السيّد غفران، وبدأت رحلةٌ طويلةٌ لم أتوقّع أن أكتب عنها يوماً.

صرت أسعى لنصرة الضعيف وفق مقدراتي فائقة الضآلة، ورحت أتعمّق في تغييب كلّ إحساسٍ لا يمتّ للغفران بصلة. أن أغضب؟ هذا حسن، لكن ماذا ينبغي أن يلي الغضب؟ المقاطعة قد يقول البعض، أو ربما البُعد فقط، أو التنفيس عن الغضب بأيّ شكلٍ من الأشكال. أما تلك الطفلة إيّاها، فكان على الغفران أن يليَ غضبها، مهما كان الثمن. أن أكره؟ هذا ليس حسناً، فالكراهية شعورٌ لحظويّ ليس متاحاً لمن اختار طريق السيد غفران.

التعالي على المشاعر: لا أعرف مَن قال إنه فضيلة، أو ارتقاء. لا أعرف إن كان الحقّ على بوذا أم السيّد غفران أم على المدرسة المتديّنة التي هرعت أمّي لإخراجي منها بعدما تسلّلت حبال اللّه إلى سقف غرفة نومي وأحلامي… من المرجّح أنهم جميعاً أبرياء، وحتى إن لم يكونوا، فالأولوية الآن لإنقاذ الضحية وليست لمحاسبة الجاني.

هكذا ينفُذ الجناة من العقاب. يطلّ رأس السيّد غفران من شبّاك الخيال ليذكّرني بأن الغفران والمحاسبة نقيضان. واليوم تحديداً، أي بعد أكثر من ثلاثين عاماً، أفصحتُ لأمي عن رغبتي في أن أكون بوذا.
 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها