الإثنين 2023/02/20

آخر تحديث: 19:23 (بيروت)

"The Last of Us"... أمل وسط الخراب

الإثنين 2023/02/20
"The Last of Us"... أمل وسط الخراب
مسلسل مأخوذ عن اللعبة الالكترونية
increase حجم الخط decrease
"شيء ما ليس آمناً، ومن هنا يبدأ كل شيء". 
- إرنست بلوخ، "منظور فلسفي للرواية البوليسية" من كتابه الأخير "وداعاً لليوتوبيا؟" (1980).

العالم ينتهي دائماً، خاصة في ألعاب الفيديو. جملة الفيلسوف الألماني المذكورة أعلاه تحتفظ بكامل صلاحيتها هناك: غالباً ما تكون نهاية العالم هي البداية فحسب. في لعبة ديستوبيا نهاية العالم "The Last of Us"، يبدأ كل شيء عندما يصيب فطر كورديسيبس المتحوّر أكثر من نصف سكان العالم محوّلاً إياهم إلى كائنات آكلة للحوم البشر.

مَن لعبها لا يمكنه نسيان تلك المغامرات التي عاشها في دور العامل المياوم وتاجر السوق السوداء جويل ميلر. مع رعيّته إيلي، إبنة الـ14 عاماً، يجول أنحاء أميركا الشمالية بعد نهاية العالم، وفي هذه الأرض القاحلة دوناً عن بقية الأماكن، يربح لنفسه عالماً يستحق العيش والمعاناة من أجله.

في العام 2013، عندما أُصدرت منصةّ "نوتي دوغ" لعبتها "ذا لاست أوف أس" The Last of Us للعمل على جهاز "بلاي ستيشن 3"، كان سيناريو جائحة فطرية عالمية يبدو حلماً بعيد المنال. منذ ذلك الحين، صنعت "ذا لاست أوف أس" اسماً لنفسها كأحد أنجح الألعاب في التاريخ. حتى أن وباءً فعلياً لم يضرّ بنجاح قصة جويل وإيلي المؤثرة، كما اتضح حين إصدار الجزء الثاني من اللعبة في 2020، أول أعوام جائحة "كورونا". والآن، مع اقتباس اللعبة تلفزيونياً في مسلسل ضخم ومكلف من إنتاج شبكة "إتش بي أوه" الأميركية، يمكن للّعبة وعالمها الدخول أخيراً في المدونة الخالدة للثقافة الجماهيرية العالمية.

تاريخ محبط
هذه مهمة جريئة، لأن تكييف ألعاب الفيديو للشاشة ليس سهلاً، كما نعلم جميعاً، بعد عدة تجارب أثبتت فشلها على نطاق واسع. منذ فيلم "سوبر ماريو بروس" الفاشل من العام 1993، والذي وصفه بطله الممثل بوب هوسكينز لاحقاً بأنه "أسوأ شيء أنجزه على الإطلاق"، بدا أن هناك ما يشبه اللعنة على هذا النوع التفاعلي بين الوسائط المختلفة. تبعه المزيد من الإخفاقات، مثل أفلام "قدر غاشم" Doom (2005)، و"عقيدة القاتل" Assassin's Creed (2016)، و"مجهول" Uncharted (2022). فشلت كل هذه الاقتباسات الفيلمية في الاحتفاظ بالروح التي تخللت قالب ألعاب الفيديو المأخوذة عنها.

أخيراً، تعديلات خفيفة ومسلّية، مثل "المحقق بيكاتشيو" Detective Pikachu (2019) وأفلام "سونيك القنفذ" (2020 و2022)، بالإضافة إلى مسلسلات الرسوم المتحركة مثل "سايبر بانك: عداؤو الحافّة" Cyberpunk: Edgerunners (2022) أو "آركين" Arcane (2021)، المستند إلى لعبة الإنترنت متعددة اللاعبين League of Legends؛ أظهرت كيفية القيام بذلك بشكل أفضل.

يُقال إن "إتش بي أوه" أنفقت أكثر من 100 مليون دولار أمريكي لإنقاذ مسلسلها من مصير سوبر ماريو. وكان الأمر يستحق. لا يرجع هذا في المقام الأول إلى الميزانية السخيّة، ولكن قبل كل شيء إلى الاهتمام بالتفاصيل من جانب جميع المعنيين. عَملَ الكاتب الرئيسي للمسلسل كريغ مازن (صاحب المسلسل القصير الناجح "تشرنوبيل"، من إنتاج "إتش بي أوه" أيضاً) مع مطوّر اللعبة الأصلية نيل دروكمان، على الاقتباس. وكانا مستعدين جيداً، إذ لعب مازن اللعبة أكثر من 12 مرة، وفقاً لتصريحاته الصحافية.

يعود مازن للعمل مع "إتش بي أوه" في مشروعٍ رائع ليس فقط لمزاياه الفنية الواضحة ولكن أيضاً بسبب الكمّ الهائل من التحديات (المشاكل) التي كان قادراً على اجتيازها. في البداية، سادت الفوضى الفنية والتجارية في شركة وارنر براذرز ديسكفري بعد عمليات دمج وترتيب أوراق، ولكن أيضاً بسبب بعض الإرهاق في ما يتعلّق بالقصص التي لا تعدّ ولا تحصى عن نهاية العالم (التي تعزّزت بالطبع بسبب جائحة كورونا)، بالإضافة إلى العلاقة المحبطة التي تمتّعت بها الغالبية العظمى من ألعاب الفيديو عندما يتعلق الأمر بتحويلها أفلاماً ومسلسلات.

وبهذا المعنى، فإن تعاونه مع نيل دروكمان ولّد قصّة شاقّة بقدر جمالها وحساسيتها ووجوديتها أكثر من كونها صاخبة تصرخ لجذب الانتباه، قصّة تجلب مساحة منعشة من الحرية الفنية ومستوى من الصنعة والتمثيل الرائعين بالفعل.


بداية مشدودة
الحلقة الأولى الممتازة التي أخرجها مازن نفسه (تقريباً فيلم طويل بحد ذاته إذ تبلغ مدتها 81 دقيقة) تفتتح أحداثها بمقدمة تعود إلى العام 1968 يحذّر فيها أحد العلماء من الآثار المدمّرة التي يمكن أن تُحدثها الفطريات بالبشرية. يُطلق العنان لهذا النذير المشؤوم بعدها في العام 2003، عندما ينتشر فطر طفيلي (ليس فيروساً أو بكتيريا أو شيئاً سحرياً) بين البشر، ولا يمكنه البقاء على قيد الحياة داخل البشر فحسب، بل يؤثر أيضاً على نظامهم العصبي ويحوّلهم إلى كائنات شديدة العدوانية بلا عقلٍ يتوقون إلى التهام كل شيء مطوّراً ما يشبه مستعمرة فطريات على أجسادهم؛ ما يجعلهم أكثر تمثيلات الزومبي البصرية أصالة حتى الآن.

في هذه الحلقة نلتقي بجويل (بيدور باسكال) الذي يعتني بابنته المراهقة سارة (نيكو باركر) في مدينة أوستن بولاية تكساس. لكن المأساة تغزو أيضاً تلك البيئة الأسرية الوادعة، وسيطبع الألم وصدمة الخسارة شخصية البطل. ثم تبدأ الأحداث الرئيسية (المتراوحة دوماً مع العديد من ذكريات الماضي) بعد عقدين من نهاية العالم بسبب الوباء الفطري، في العام 2023، حيث استحال العالم خراباً ولم ينج إلا قليلون؛ من بينهم، بالطبع، جويل، الذي أصبح مُهرّباً خبيراً للموارد النادرة للغاية في منطقة الحجر الصحي في بوسطن.

في ظلّ هذه الفوضى والحكم شبه العسكري، تقضي صفقة بمرافقة جويل لإيلي (بيلا رامزي، التي نعرفها سابقاً من مسلسل "لعبة العروش")، وهي يتيمة تبلغ من العمر 14 عاماً يبدو أنها مصابة بالعدوى في البداية ولكن قد يكون لديها مناعة نادرة ضد الفيروس (لذلك يمكن أن تكون أيضاً مفتاحاً لإيجاد علاج ينقذ البشرية). وهنا يتشكّل القلب العاطفي للقصة: العلاقة بين رجل فقد ابنته وابنة فقدت والديها، وسط اختلافات بين الأجيال ومخاطر ونواقص من جميع الأنواع.

وفاء للأصول
ليس من المناسب الخوض كثيراً في قول المزيد عن قصّة تحتوي عدداً قليلاً من الحبكات الفرعية، والقفزات الزمنية والجغرافية (يمكن أن ينتهي بنا المطاف، مثلاً، في إندونيسيا)، والاشتقاقات ضمن الأنواع المختلفة (أتاحت الشركة المنتجة 9 حلقات للصحافة والنقّاد الدوليين)، لكن يمكننا ذكر العلاقة الناشئة بين فرانك (موراي بارتليت)، رجل مثلي الجنس يجد الملاذ والحب في منزل ناجٍ آخر مثل بيل (نيك أوفرمان). على الرغم من أن معظم الحلقات احتكر فيها جويل وإيلي الشاشة، يظل "ذا لاست أوف أس" مسلسلاً كورالياً أقرب لأفلام الطريق يضمّ شخصيات ثانوية متعددة ومشغولة، مثل تومي (غابرييل لونا)، الشقيق الأصغر للبطل؛ إلى جانب الحضور النسائي القوي ممثلاً بآنا تورف في دور تيس، شريكة جويل؛ والرائعة ميلاني لينسكي في دور كاثلين، زعيمة الثورة، العنيفة والتوّاقة للانتقام؛ أو ميرلي داندريج في دور مارلين، قائدة أخرى من قادة الثورة.

في بعض الأحيان، قد يتآمر قدر معين من التبسيط السردي ضد انتباه قطاع من الجمهور أكثر استعداداً للمحفزّات الثابتة والمستمرة، لكن يبقى "ذا لاست أوف أس" عملاً لافتاً في حساسيته وألعابه السردية وعروضه المرئية (وأيضاً الموسيقية، مع مساهمة الأرجنتيني غوستافو سانتا أوليا، مثلما في لعبة الفيديو الأصلية). وعلى ذكر الموسيقى، فمقدار احترام المشروع الجديد لأصوله واضح بالفعل بدءاً من الموسيقى الافتتاحية، حيث يتعرّف المرء على التيمة الرئيسية المؤثرة من الموسيقى التصويرية للّعبة من تأليف سانتا أوليا. تقريباً بقدر ميلانكولية هذه الموسيقى تأتي رحلة جويل وإيلي، من أقصى الولايات المتحدة إلى أقصاها، زاخرة بمرئيات جميلة وموحشة واحتمالات مفتوحة. تجوال لاهث في عالم خالٍ من المعنى بحثاً عن معنى.

كذلك يحاول المسلسل رفد عالميته (أبعد من موضوعه وحكايته العالميين بطبيعة الحال)، من خلال بعض الإيماءات الواضحة والموجزة على السواء (مثلاً، في الحلقة الأولى ندخل محلاً لبنانياً لتصليح الساعات ونسمع حديثاً باللهجة اللبنانية). وعلى الرغم من أن كلاً من كريج مازن ونيل دروكمان لم يخرج أيهما أكثر من حلقة واحدة (مازن في الافتتاحية، ودروكمان في الثانية، في أولى تجاربه الإخراجية)، فإن اختيار صانعي أفلام مثل البوسنية ياسميلا زبانيتش (مخرجة فيلم "إلى أين تذهبين يا عايدة؟"، التي أنجزت الحلقة السادسة) والإيراني الدنماركي علي عبّاسي (مخرج فيلم "عنكبوت مُقدَّس"، المسؤول عن إخراج الحلقتين الأخيرتين الوحشيتين) يتحدّث بوضوح عن عمليات بحث تحولت لاحقاً إلى اكتشافات لمسلسلٍ يبدأ موسم  2023بقوة ضاربة.

ما يُبقينا بشراً
المسلسل، مثل لعبة الفيديو المأخوذ عنها، ينجح في تتبّع السلوك البشري في المواقف المتطرفة بدقّة مقياس الزلازل. السؤال الوجيه والأبدي عمّا يحدث عندما تنتهي الحياة اليومية بشكل غير قابل للاسترداد تتمّ الإجابة عليه بقوة مذهلة في المسلسل، بناءً على العلاقة المألوفة بشكل متزايد بين جويل وإيلي. لكن الشخصيات الثانوية من اللعبة تحصل أيضاً على مزيد من العمق هنا.

تحكي إحدى الحلقات القصة المؤثرة لبيل وفرانك المذكورين أعلاه، بينما تُظهر حلقة أخرى كيف وأين بدأ الوباء في البداية. كذلك تلعب الممثلة آشلي جونسون، التي قدّمت صوتها وحركاتها لشخصية إيلي في لعبة الفيديو الأصلية، دورًا موجزاً ولكن مهم.

حين ظهرت لعبة The Last of Us قبل عشر سنوات، بدت وكأنها حكاية رعب مكثفة. كانت قصتها أكثر دلالة على تفكّك المجتمع الأميركي أو دوّامة العنف التي ما زالت إسرائيل، موطن نيل دروكمان، تغرس نفسها فيها بكلتا قدميها.

مع انطلاق المسلسل في بداية عامٍ يبدو فارقاً على مستويات عديدة، ربما يأتي في التوقيت الأكثر مناسبة. حتى لو لم يحوّل فيروس كورونا أي شخص إلى زومبي، فإن الأسئلة المثارة في "ذا لاست أو اس" حول ما الذي يجعل الناس بشراً وكيف تغيّرهم الخسارة والصدمات، لا تزال وثيقة الصلة. العروض التمثيلية الرائعة التي قدّمها بيدرو باسكال وبيلا رامزي مثيرة للإعجاب بشكل خاص.

قد يجد محبّو اللعبة الأصلية مظهر الثنائي، المختلف عن الأصل، عائقاً أمام الاستمتاع بالوجبة للوهلة الأولى. إلا إنه في حقيقة الأمر، إحدى نقاط قوة المسلسل تكمن في تفضليه سرد قصص أبطاله وتسليط الضوء عليهم بدلاً من محاكاة أسلوب اللعبة بحذافيره. في هذا الصدد، يعدّ اقتباس "إتش بي أوه" درساً موضوعياً في ما تتشاركه الأفلام والألعاب، وما لا تتشاركه بالطبع. قال أورسون ويلز ذات مرة "لا تزال السينما شابّة جداً، وسيكون أمراً سخيفاً بكل بساطة إذا لم ينجح المرء في انتزاع بعض الجوانب الجديدة منها". يُظهر "ذا لاست أوف أس" كيف يمكن لوسيط أصغر عمراً مثل ألعاب الفيديو مساعدتنا في الارتقاء إلى مستوى هذا الشعار في المستقبل.

حالياً، يُقال إن المزيد من اقتباسات ألعاب الفيديو تتجهّز في مطابخ الصناعة السينمائية والتلفزيونية: منصة "أمازون برايم" تعمل على إنجاز مسلسل مأخوذ من لعبة "إله الحرب" God of War، فيما تخطّط "نتفليكس" لإصدار مسلسل من لعبة Horizon Zero Dawn، فضلاً عن فيلم الرسوم المتحركة "The Super Mario Bros. Movie" المنتظر إطلاقه في نيسان/أبريل المقبل، ما قد يكسر لعنة الاقتباس الأول السيء لماريو ومغامراته في مملكة الفِطر. بفضل "ذا لاست أوف أس"، حتى عشاق تلك الألعاب لم يعودوا خائفين من النتيجة بعد الآن، لكن سقف التوقعات ارتفع أيضاً. لننتظر ونرى.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها