الثلاثاء 2023/12/12

آخر تحديث: 21:51 (بيروت)

الصورة في غزة.. تعادل البقاء

الثلاثاء 2023/12/12
الصورة في غزة.. تعادل البقاء
increase حجم الخط decrease
غيّرت غزة قواعد التغطية الصحافية التي لطالما تجنبت عرض صورٍ لأشلاء الضحايا ووجوههم في الحرب، وإن كان الحال في أوكرانيا قريباً لذلك مع قيام الإعلام الغربي في بداية الهجوم الروسي ولأول مرة، بنشر مقاطع فيديو لقتل مدنيين أوكرانيين، وذلك بهدف تعزيز موقع الصورة الصحافية كدليل قاطع على وحشية بوتين. 

والواقع أنّ كاميرا الموبايل في غزة ما عادت مجرد أداة لنقل الحدث وتوثيقه، وإنّما تشكيل أبرز ملامحه في ظل غياب التغطية الاعلامية العالمية عن غزة، وتحول أغلب الغزاويين الى مصورين متنقلين.

الصورة وسيلة لطلب "النجاة"
في إشارة الى مدى تأثير التكنولوجيا في حياة الافراد، تناقلت لسنوات في وسائل التواصل الاجتماعي صورة الأشخاص الذين يتهافتون الى تصوير رجلٍ مضرجٍ بالدماء بدلاً من الإسراع الى إنقاذه، هذا المشهد الكاريكاتوري كان كناية عن تحول الانسانيّة الى مجرد شعار أمام الرغبة الجامحة لإشباع فضول الجمهور. 

لكن الحرب على غزة فرضت هذا الأمر بطريقة مغايرة؛ أن يضطر الرجل المضرج بالدماء على تصوير نفسه كي يطلب من العالم النجاة. وأمام هذا الواقع المستغرب، بدت كاميرا الهاتف على أنّها الضوء الوحيد في نفق التعتيم الاعلامي. وأمام عدم امكانية وصول الصحافيين الى موقع الحدث، غدت الصورة المرسلة من هواتف المواطنين العزل هي الحدث.

والحال، أنّ المشهدية الحالية تحمل حقيقة لم يكن لأحد أن يتوقعها. أن يُحمل الهاتف بيد وفي اليد الأخرى تنتشل جثة من تحت الركام وتهرع بها الى المستشفى، أو أن يُلتقط فيديو لإنعاش طفل بعد إصابته بالصاروخ وغيرها من المشاهد التي لو لم تنتشر بهذا الشكل ما كان ليعرف العالم بأنّ ما يحصل في غزة ليس حرباً دفاعية، وإنّما مجزرة مقصودة عن طريق تصوير تعدد أساليب القتل الاسرائيلي والضحايا الناجمين عنه.

بناء معنى الصورة يتجسد في انتشارها
لم تتغير الأحداث كثيراً في هذه الرواية المأساوية، فالقتل بات أكثر وحشية، ومساحة الدمار ازدادت بشكل لا يقبله عقل، والموت والتنكيل وبتر الأطراف وتشويه الأعضاء غدا قوتاً يومياً يتلقفه المشاهد، والكل على علم بهوية القاتل. وعلى الرغم من ذلك، دأب الغزاويون على استكمال فصول الرواية كي لا يكونوا وحدهم شهوداً على ما يحصل، محولين بهذا الفعل الصورة بحد ذاتها الى شاهد آخر أمام العالم، وفي حال قتلوا تبقى هي الإرث الذي لا بد من خلاله أن يستيقظ هذا العالم.

عملياً، إنّ المعنى الذي تحمله الصورة لا يتجسد في لحظة التقاطها وحسب، وإنما يتشكل ما بعد ذلك، أي في مرحلة تناقلها بين الناس وانتشارها في وسائل التواصل الاجتماعي، ليغدو العالم الذي يتبنى هذه الصور عبر صفحاته أشبه بمن يقول "أنا أشهد على ذلك أيضاً"، ولذلك لا بد من الاطلاع على تعليقات الناشطين في منصات التواصل الاجتماعي وما تحمله من معانٍ اضافية على الصورة. 

فالرواية التي أنتجتها الصورة الغزاويّة هي ثقل المشاعر التي حركتها في قلوب الناشطين، والذين أضافوا بدورهم الى هذه الرواية مواقفهم المطالبة بوقف هذه "الابادة". ولاحقاً ستتحول الصورة الى مرجع في ذاكرة العالم.

الصورة: اللقاء "العاطفي" الأول والوصية الأخيرة
قد يتساءل البعض عن أهبة الغزاويين لتصوير أنفسهم وكأنهم على علم مسبق بما سيحدث، حتى أنّ الإعلام الاسرائيلي شكك في صدقية هذه الفيديوهات واعتبرها في لحظة تطفل سخيفة أنّها شبيهة بالعمل الدرامي والتمثيلي. لذلك، يجدر الاشارة الى أنّ هذه الفيديوهات لا تخضع للمونتاج نظراً لتسارع الأحداث والحاجة الى نقل الصورة الى العالم الذي دخل الى هذا الصراع عن طريق بناء تواصل عاطفي مع الفلسطينيين. ولذلك، اتخذت الصورة كنقطة اتصال مع هذه القضية الانسانيّة. 

فإذا كان الفرد في ساحة حرب وتعرض لضرب ناري، أول أمرٍ يهرع للقيام به هو حمل بندقية وتصويبها على موقع اطلاق النار لدرء الخطر، أمّا بالنسبة للغزاويين الذين يواجهون حرباً غير متساويّة، فإنّ الموت قادم لا محالة، وإمكانية النفاد بأرواحهم من آلة القتل الاسرائيلي أمر شبه معدوم. وهذا ما يفسر لجوءهم بشكل عفوي الى تصوير المشاهد الدموية اليوميّة وكأنهم يكتبون من خلال هذه الفيديوهات وصيتهم الأخيرة بضرورة الاستمرار بالضغط العالمي من أجل تحرير غزة وأهلها.

الصورة "الشعبيّة" رواية واحدة بمصادر متعددة
تعلم اسرائيل جيداً أن الصورة تمتلك قوة كبيرة في التأثير في الرأي العام، مما دفعها لقطع الانترنت عن غزة مرتين لحجب حقيقة المجازر التي ترتكب. وحاولت اسرائيل مواجهة هذه الرواية بصناعة رواية تقوم على تبرير قتل المدنيين بحجة محاربة "حماس"، لكن لا يمكن لمثل هذه البروباغندا الموجهة أن تدحض رواية يكتبها شهود من قلب المعركة. فالفرق بين البروباغندا "العسكرية" والرواية "المدنيّة"، هو أنّ الأولى مدروسة النتائج وموجهة ومعدة سبقاً ومصدرها معروف، أمّا الرواية بألسنة الغزاويين فهي رواية واحدة وإن تعددت مصادرها. أخيراً، تثبت الحرب على غزة أن الصورة تعادل البقاء.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها