الإثنين 2023/01/30

آخر تحديث: 13:48 (بيروت)

فَقدٌ لا يندمل

الإثنين 2023/01/30
فَقدٌ لا يندمل
الفاجعة، التي لم تُمسِ ماضياً، حامية كعين الشمس (غيتي)
increase حجم الخط decrease
رحلة الشفاء شقاء... ردّدتُ ذلك كثيراً خلال الأشهر الماضية. بقيَت هذه العبارة ترنّ في رأسي بأنغام مغايرة، مرة بعد أخرى. وأردّدها بهَمهَمة أحيانًا، لتبدو تعويذة أو صلاة تعينني على الصبر، وتغريني بالأمل. أستعيدها اليوم، إذ أجدني أشقى ولا أرى أفقاً للتعافي.

ظننتُ أني شفيت من متابعة أخبار لبنان... لكن ها هو الغضب يعيدني إليها.
سخط الناس على قهر لا قعر له، يشدني إلى هناك، إلى ركن من أركاني حياتي، حسبتُ أني أطفأت النور فيه وغادرته.

الحقيقة، أني فعلت ذلك أكثر من مرة. توهمتُ أني عرفت كيف أنزع القابس الذي يبقيني موصولة بإيقاع لا يشبه إيقاعي اليومي بأي شيء، يمدني بشحنات تجاوزت قدرتي على التعرف إليها. أدواتي التحليلية البسيطة لا تخفف من عبء عدم فهم الأسباب. أعرف أن الوافد إليّ من تلك البلاد تخطّى حدود الحنين، أني لم أعد أسمّي تلك السقطات في دهاليز العاطفة شوقاً. تاه الشوق عني. موجات اضطراب القلق لا تجتاحني كما سبق، لا تضرب دفعة واحدة بمجرد التفكير بالزيارة أو بدء التحضير لها...

لا أجزم أني توقفت تماماً عن الاستعانة بحِيَل ذهنية تُسهل عليّ مجاراة مواعيد التفقد، والقول إن ترجمة ذلك بحمل حقيبة زائرة ممكن، وبعدها ستُفكُّ العقدة!
غير أني... لم أعد أعرف طريقاً حتى لزيارة خاطفة. أصبح الإقرار بذلك أسهل بعد تبنّي لازمة أعيدها في لقاءاتي مع زائرين عائدين من وراء تلك الشمس.

هل مرت ثلاث سنوات، أم بَعد؟ أحاول ترتيب صور من الذاكرة عن آخر زيارتين بين العمل والإجازة، ولا أفلح في التخفيف من هالات التردد التي تحاصر ومضات التحفيز.
عزائي أني لست وحيدة في مواجهة هذا الانسداد العاطفي.

لا تمايز لي عن كثيرين مثلي، يحمون أنفسهم بالانقطاع عن متابعة سيل الأخبار اليومية المغرقة في تفاصيلها... تتناسل من بعضها البعض، وتكبر في ضباب منشورات تتحامل علينا، نحن الضعفاء في البُعد الآخر، المتمسكين بهشاشة خطوط الطول والعرض، الراغبين في التدقيق والاستدلال والفهم. ونحن في غفلة من كل شيء... إلا من الانغماس في الاختناقات تحت سماء أخرى، تأتينا ارتدادات من هناك، من حيث لم تعُد للناس طاقة حتى على الغضب. كلما مارسنا طقوس الإنكار و"ارتحنا"، أعادنا إليه مشهد تجمّع حانق وساخط.

إنما، تجمع أهالي ضحايا انفجار بيروت ليس تجمّعاً غاضباً فحسب. أهالي الضحايا لا يتجمّعون أصلاً، لا يتداعون. الفاجعة، التي لم تُمسِ ماضياً بعد ليتفرقوا ويستعيدوا وصلًا انقطع بينهم لإحياء الذكرى... حامية كعين الشمس. هذا الجرح المفتوح كفيل بإبقائهم حيث هم الآن، واقفين أمام ميزان ملتوٍ، يصرون على ملاحقة المجرمين والتماس طيف عدالة مخطوفة.

وهل هم غاضبون؟ هل يصرخون حقاً؟ أم أنهم ما زالوا يدورون حول أنفسهم عند لحظة الذهول حيث توقف بهم الزمن. فتحوا أفواههم، أطلقوا العنان، ولا شيء... لا صوت يخرج... وكأنهم في حلمٍ، يطلقون صرخات لا تشق الهواء ولا تُسكن وجعاً، يقفون أمام قصر العدل راجين رنة هاتف توقظهم من هذا الكابوس.

أستذكر بهم، أهالي المخطوفين... نزف لا ينضب.
أي انتظار هذا، سجلوه بالدموع وعدم اليقين، بنظرة التفقد ونداءات لا رَجعَ صدى لها... إلى أن صدر قانون المفقودين والمخفيين قسراً. وبعد؟ موعد جديد مع القدر والمصير المجهول ضُرب لهم باسم هذا القانون. خيط محاسبة يبرق أمام عيونهم، يلوح بعيداً، ويبقيهم بين حدود التسليم والعزاء. ومع ذلك لا محاسبة ولا عدالة بعد...

بعد الحرب، جاء من أقفل الباب ومضى، تاركاً أهالي المخطوفين يواجهون الجَور بمفردهم، ويموتون واحدًا بعد الآخر، وفي قلب كل منهم فَقدٌ لا يندمل. وبعد جريمة تفجير المرفأ، جاء حامل المفتاح نفسه، ليغلق الباب مرة أخرى، سريعاً، ويهرع إلى مكانه، مخلّفاً أهالي الضحايا، كعادته، مفجوعين بفقدهم حتى رمقهم الأخير. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها