الجمعة 2023/01/13

آخر تحديث: 14:08 (بيروت)

مُلهِمة الكتابة في مواجهة مُفسدي البهجة

الجمعة 2023/01/13
مُلهِمة الكتابة في مواجهة مُفسدي البهجة
إيزابيل الليندي تستعد لكتابة عمل جديد في 8 كانون الثاني من كل عام (عن صفحتها في فايسبوك)
increase حجم الخط decrease
كل شيء في الصورة أنيق، ولا غبار عليه. أكاد أن أمسح بإصبعي المكتب ومن ثم أفحصه... أومئ برأسي وتتلوى عيناي من النتيجة... لا ذرة غبار واحدة.

تجلس الكاتبة أمام شاشة الكومبيوتر، تعايننا بنظرتها في إطار معدٍ بدقة يقظة لكل تفصيل... من اختيار الألوان لتتماشى مع رسالة الإشراق، ولون الأثاث والإضاءة، إلى انتقاء الوردة تناغمًا مع لون الكتاب الذي وضع في المكان المناسب عند طرف المكتب... أما النظرة، فتكملها عبارة اعتلت الصورة، تقول فيها الكاتبة التشيلية إيزابيل آليندي، إنها في جلوسها على مكتبها تعلن جهوزيتها لتلقي العطايا من عروس الكتابة ومُلهمتها.

آليندي نشرت صورتها هذه في الثامن من كانون الثاني/يناير. وكانت قد كررت في أكثر من مقابلة سابقة، أنها تعتمد هذا اليوم من كل عام، للبدء بعملها الإبداعي الجديد. يُفهم من كلامها، أن الأمر نتج بداية من تطيّر خفيف، وأصبح لاحقًا عادة تلتزم بها.

لا أعرف ما إذا كانت المؤشرات ما زالت تصنف آليندي، كما في السابق، الكاتبة الأكثر مبيعًا في أميركا اللاتينية. لكني شبه متيقنة من أنها قطعت شوطًا طويلًا... منذ الرواية الأولى التي بدأت كتابتها في غرفة المطبخ وتنقلت بها بين الشوارع المتعددة، كما تتذكر، إلى لحظة وصولها للجلوس كملكة تتربع على عرش الإلهام المنتظر، وعلى عتبة روايتها المقبلة.

الرحلة شاقة، أظن. كيف استطاعت أن تضع يدها في الرمال، وتبعد في حد يدها بعضًا منه، وتزيح معه الكثير من الأشخاص الذين يقتاتون من وقتها؟ مثل أولئك الذين يمتصون الاهتمام ويحييون على إشغالنا بهم، وهؤلاء كثر، وموجودون في كل دائرة نتحرك فيها. ليسوا فقط، أولئك الذين نعيلهم، أو الذين نرعاهم طوعًا أو نراعيهم فرضًا. بل هم أولًا، وربما قبل أي فئة من الفئات التي قد تخطر في بال، أولئك الذين يستهلكون طاقتنا بتفاعل سلبي. وهؤلاء لا يُصنفون وفق صِلات الدم أو زمالة العمل، بل  يصنفون وفق فئة ساحبي الطاقة...

ولأن الكتابة أو العمل الإبداعي عمومًا، في الأساس، عملية نقل طاقة، أقول لا بد أن آليندي فعلت ذلك. لا أظن أن انعزالها سابقًا في مبنى ملحق وموصول بالمنزل الكبير، حيث كتبت بعض رواياتها، أو واحدة على الأقل، كان له أن يؤتي ثمارًا في إنجاز مخطوطتها، لو أنها لم تنجح في توضيب الانشغالات الناجمة عن مفسدي البهجة.

كثرت، مع نهاية العام الماضي، المنشورات عن قرارات العام المقبل. وكثرت بفيض كبير يزيد عنها، تلك النصائح التي استقتها مواقع دور النشر والمعنية بالكتابة والثقافة، عن طقوس المبدعين عموماً، في استحضار اللحظة، أو في اعتماد أسلوب ودأب لا يحيدون عنه. نصائح مختلفة، لكن في النهاية، الرسالة واحدة: إختَر ما يناسبك ولن تكون إلا راضياً.

ليس ضروريًا أن ينتج الرضا عن غزارة الإنتاج. لعل معظمنا غزيرٌ من ناحية فيض الأفكار في أذهاننا.

أزعم أني في حالة كتابة ذهنية مستمرة. لكني أيضًا في حالة تحرير مستمر. أنسج بدايات وخواتيم وأعيد صياغاتها، أمحوها وأكتب من جديد، ثم أقرر أنها غير صالحة. ولِمَن هم على هذا المنوال مثابرون، فإن رضاهم يتأتى من جرِّ أجسادهم إلى كرسي الكتابة أولًا... ومتى أصبحوا هناك، فكل كتابة وحذف لها، محمود. هناك، لهم أن يمارسوا، كما يشاؤون، تشدداً أو ليناً في التعامل مع أفكارهم وكلماتهم. فالفعل نفسه هو الإنجاز، وهنا يكمن الرضا.

سمعت مرة، مؤلفاً موسيقياً وعازف غيتار فلامنكو يقول: أوصل ابنتي صباحًا إلى الحضانة، بعدها أعود إلى منزلي، أمسك بالغيتار وأبدأ التمارين الروتينية... شيئًا فشيئًا أجدني أتعامل مع بعض النوتات الجديدة. في النهاية، يختم الموسيقي، إن المهم هو بذل الجهد والالتزام بالعمل الجاد.

أراحني هذا الفنان الذي لا أذكر وجهه الآن. فهذا صحيح إلى حد بعيد، وأكاد أجزم أن العمل الجاد يبدأ من قرار الاستبعاد، ليصبح جرّ الجسد إلى كرسي الكتابة أسهل. أصبحت جذور قناعتي أكثر صلابة وتشبثاً من ناحية تهيئة الأجواء وتنقيتها من السموم، من مفسدي البهجة. وهم ليسوا من لا يعرفون رقع الضحكات في جلسات الأصحاب، أو المسارعة إلى تغيير مسار الرحلة من دون وجهة محددة، ومن دون أن يرف قلبهم قلقاً وتثقل ذراعهم من التوتر المحمول على كتف المجهول.

إن مفسدي البهجة، كما يبدون لي، اليوم، هم أولئك الذي يريدون أن نتلهى عن أنفسنا، عما يمكِّنُنا من العطاء... إنهم محاربو المعطائين.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها