الأربعاء 2022/10/05

آخر تحديث: 00:03 (بيروت)

أخبار فلسطين التي تأتي بعد دقات "بيغ بن"

الأربعاء 2022/10/05
أخبار فلسطين التي تأتي بعد دقات "بيغ بن"
من أرشيف المتحف الفلسطيني
increase حجم الخط decrease
وصلت حكاية "هنا لندن" إلى خاتمتها. إعلان قرار إغلاق إذاعة "بي بي سي" الناطقة باللغة العربية، ليس صادمًا، لكنه حزين.

منذ سنوات، يعرف معظم مَن مروا على الإذاعة، سواء كانوا عاملين فيها أو متعاونين معها، ومستمعين أيضًا، أن حقيبة الرحيل تُعد منذ سنوات عديدة ماضية. في نظر القيّمين، أدت الإذاعة مهمتها على أكمل وجه، وحان وقت إحالتها إلى التقاعد.

سبق قرار الإغلاق، أو العصرنة الرقمية كما تُقدَّم الآن، تسريح ضخم للموظفين، وتقطيع أذرعها وإيفاد بعضها إلى عواصم عربية، منها القديم الراسخ في علاقته المهنية العضوية مع الإذاعة الأم، ومنها الجديد، ما جعلها تبدو كمريض في الغيبوبة... يحتار محبوه في قرار نزع أنبوب الأوكسيجين عنه... يتحايلون على أنفسهم ولا يتجرأون.

لكل منا حكاية معها، وهذا جانب من حكايتي…

"هنا لندن"، رددتها في بالي وأنا أحزم حقائبي للمجيء إلى العاصمة البريطانية، لأكون من الوافدين إليها لإطلاق تلفزيون "بي بي سي" عربي. ورددناها في غرفة التحرير كثيرًا، قبل أن نخرج بها إلى المشاهدين بعد ثمانية أشهر من التحضير "تحت الهواء". آنذاك، كانت خبراتنا متنوعة ومختلفة، وتجاربنا متباينة... كنا أجيالاً مجتمعة بذكريات تتقاطع حول طنين ساعة "بيغ بن" إيذانًا بجرعة من الأخبار بصوت راسخ…

إنه التلفزيون، الصورة والاختزال والأداء السريع الخاطف… لكن في البال، بقي الصوت والأثير آسرَين… في أذهاننا، في مخيلتنا. لا شكَّ أنه حضر حينما اختبرت العمل الإذاعي في بداية سنوات الجامعة في بيروت، وتجلى أكثر في كل مرة وجدتني أطلق صوتي عبر أثيرها في لندن بين حين وآخر. عنى لنا الكثير، أن نتوهم بأننا نستكمل حقبة "ذهبية"، نبحر في مخيلتنا ونأخذ طفولتنا في حضننا…

راديو "بي بي سي"... هو صباحات في بيت عمتي حيث الحب والدلال، وحيث تعرفت على مسحوق حليبي أبيض يسمى "رفيق القهوة"، واستشعرت وجودَ عالم آخر تدور فيه أحداثٌ، وتبرز فيه أسماء تقرر وترفض وتهدد... هو الاستيقاظ الباكر في بيت عمتي، أيام الإجازات صيفًا وشتاءً، ولو أن صورها اليوم، تحضر في بالي وأنا في مدينة غصت سماؤها بالغيوم، مشمسة إلى أبعد حد.

تتسرب إلى مسمعي دقات "بيغ بن"، وأنا ملتصقة إلى جانب عمتي في السرير، فأدرك أن "عمو" بدأ طقسه اليومي الذي سيقودنا إلى "صبحية القهوة". تعينني على محاربة الكسل، صورُ الفاكهة التي ستعِدُّها عمتي لاحقًا، سأتناول منها وربما سيُسمح لي بتذوق القليل من مشروب الصباح اللذيذ. الطقس الأول يبدأ في السرير إذًا، حيث نستهلك جرعة كبيرة من الأخبار التي تأتي بعد دقات الساعة. إنه الزمان والمكان وصوت يصمت بدقة ورعاية. يتركنا معلقين عند طرف عقرب الدقائق في ترقب قاتل.

محافظًا على وضعيته المتمددة كي لا يوقظ عمتي، يضع "عمو" الراديو المتدثر بجِلد بني أقرب ما يمكن إلى أذنه، يضع ساقاً فوق ساق، مستلقيًا ويصغي... وأنا أيضًا. هكذا أصبحت، وفي عمر طري جدًا، متآلفة مع أسماء مَن فهمت لاحقًا أنهم أصحاب القرار. اعتدت سماع الإشارة إلى اجتماعات، لا أعرف لماذا يتحدثون عنها، ولماذا يكررون ذِكر عمّان والقاهرة ودمشق، واشنطن وموسكو... ومَن يلتقي مَن في إسرائيل... يقولون إسرائيل و"عمو" يقول فلسطين، ومرات فلسطين المحتلة، وأحيانًا إسرائيل...

هؤلاء إذًا أصحاب الحل والربط، حتى في وقف جولة من جولات القتال، أو جولة رصاص الفرح المزعوم بالقرب من منزل عمتي. كانت تكذب في كل مرة وتقول لي إنه عرسٌ في "أرض جلول".

كنت أصبر على سماع ما لا أعيه تمامًا، عبر الراديو، في انتظار بدء حصة من ألعاب الصباح والضحك الكثير، وأيضًا لأن الأطايب لاحقة. وهذا دافع محمود ومحبب للنهوض من كسل دفء الطقس المعتدل، إن لم تعكر صفوَه رشقاتُ الرصاص التي كانت أشدّ من زخات المطر في الشتاء. تنطلق الأعيرة النارية، تلم ثيابي في كيس وأهرع معها إلى الزاوية المقابلة للمصعد عند مدخل البناية، نُحشَر فيها إلى أن ينتهي "الابتهاج" في تلك الأرض... فتعيدني سالمة إلى منزلنا.

مع كل صباح من هذه الصباحات، كانت الحياة تتسرب إليّ بتناقضاتها. لم يكن ما أدرسه في مرحلة الصفوف الابتدائية كافيًا ليجعلني أفهم لماذا يتابع "عمو" أخبار فلسطين عبر "بيغ بن" في لندن. ولماذا يلجأ إليها ليعرف هذا الجانب من العالم، قبل أن ينتقل لاحقًا إلى التنقل عبر الإذاعات اللبنانية ليعرف آخر مستجدات الساعة من الاشتباكات، عندما نكون انتقلنا للطقس الثاني والرسمي من "الصبحية" على الشرفة.

هذه البذرة التي غرست بسلاسة من دون خطابية، ربما سهلت الطريق أمامي لفهم عبثية الأشياء وتناقضاتها... لاحقًا.

كتب الكثير عن راديو "بي بي سي"، امتداد الاستعمار وقوته الناعمة. هذا صحيح في جانب منه، وإلى حدود زمنية معينة. وهو أيضًا، بالنسبة إلى "عمو"، الفلسطيني الذي مات في لبنان بعدما عاش فيه معظم حياته من دون حق العمل أو الإيجار بشكل قانوني، مصدر المعلومة الموثوقة حتى وإن كانت لا توائم مشتهاه.

بالقرب من "عمو" الذي تحل ذكرى رحيله العاشرة خلال أيام، في مصادفة التزامن مع قرار الإغلاق، وعبر أصوات مذيعين ومذيعات أتاحت لي ظروفُ الحياة وصُدفُها أن ألمحهم في مكان العمل بعد عقود، جُبِلت عندي معرفة على شكل وعي الفطرة، وتهيأت مساحة لاستيعاب أن الحياة تُلتقُط بتناقضاتها، وإلا فإنها ليست مثيرة للاهتمام حد العيش حقيقةً. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها