الجمعة 2021/07/23

آخر تحديث: 18:48 (بيروت)

سوريا السريانيّة.. بمواجهة "الغزو" العروبي والإسلامي

الجمعة 2021/07/23
سوريا السريانيّة.. بمواجهة "الغزو" العروبي والإسلامي
تتجاوز المسألة مجرّد تعميم صفة "سرياني" (المسيحية) على مكونات إثنية وعرقية مختلفة
increase حجم الخط decrease
منذ أن تلقّى السوريّون المُؤمنون بالمُواطَنة والمَدَنيّة صفعةَ أسلَمَةِ ثورتهم، وجَعلِها حديقةً خلفيّة لمشاريع إقليمية متصارعة، ظل السؤال الأبرز هو: "ما الذي سيَملأ فراغاً فكريّاً هوياتيّاً لديهم لاحقاً"؟

سَوف يُستثنى من الشعور بهذا "الفراغ" ناشطون وناشطات تمثّل "القضايا" مصدر عيشهم المادّي، بالإضافة لسوريي الداخل الواقفين على حافة تحوّل الخبز إلى كماليّات، ليبقى سوريّو الشتات البعيدون (بنزوحهم أو لجوئهم) عن تأثير سلطات الأمر الواقع وغسل الأدمغة، والذين طوى معظمهم شعارات المرحلة السابقة؛ الممتدة من "نحنا رجالك يا بشار"، إلى "قائدنا للأبد سيدنا محمد"، ودخلوا مرحلة إعادة تعريف أنفسهم، ولو بِتلمّس طريق مختلف للانتماء إلى هويّات ضيّقة أو جامِعة.

من هنا، فقد شكّلَ صعودِ الطَّرح القديم المتجدّد حول وجود "أمة سوريّة"، مُناسَبةً لاختبار حاجة السوريين عموماً والمغتربين خصوصاً لمشاريع فكرية كهذه، فكانت النتيجة متابعةً متزايدة لما بدأت تنشره منصات عديدة في وسائل التواصل أخيراً، ترويجاً لفكرة: "سوريا السريانية كامتداد لحضارات آراميّة وفينيقية تعرضت للطمس بعد غزوات المسلمين في القرن السابع الميلادي".


للوهلة الأولى سيبدو وكأننا أمام جولة جديدة من الحروب الكلامية بين الناقمين على المشاريع العروبية والإسلامية البعثية والإخوانية، وبين أنصارها. لكن الوضع مختلف هذه المرة، فعلى صعيد الأدوات يتسلّح دعاة "العودة الى الجذور السريانية" اليوم بعملٍ شبه منظّم للنشر بكثافة، والتعريف بالتاريخ، وتعليم اللغة السريانية. كما يحاولون الاستفادة من المتغيرات الجارية في المنطقة كدعوات الحِياد المسيحية اللبنانية، والتململ من "رهن لبنان لصالح حروب الآخرين".

وعلى صعيد المضمون، تتجاوز المسألة مجرّد تعميم صفة "سرياني" (المسيحية) على مكونات إثنية وعرقية مختلفة، نحو لغة هجومية تخلِط العِرق بالدِين، وتبثّ مضامين شعبويّة عدوانية مُوجّهة ضد العرب والأكراد وغيرهم، فضلاً عن تمرير مقاربة من وقت لآخر، مُلخّصها أن "العرب غزاة، أما اليهود فهُم من المكونات الأصيلة في المنطقة"!.

وفي هذا السياق يَبرُز اقتطاع مشاهد تاريخية عشوائية ليُعاد تقديمها بأسلوب رغبوي يتعمّد شدّ عصب المتابعين، سواء بالتذكير بمظالم (مذبحة المسيحيين في دمشق المعروفة بـ"طوشة النصارى" عام 1860، ومذابح سيفو أثناء وبعد الحرب العالمية الأولى)، أو بطرح مقاربات تُخرِج التاريخ من سياقاته الظرفية والمكانية والحدثية، وتصنع منه مادة حيّة آنيّة تبث الكراهية. 

ولعل أبرز مثال عى ذلك تشبيه معارك القائد الإسلامي خالد بن الوليد في بلدة القريتين السريانية بريف حمص، قبل نحو 14 قرناً بتلك التي خاضها تنظيم "داعش" في عام 2015.


والحال أنّ استعادة وقائع وسرديّات من هذا النوع هو سلوك طبيعي للجماعات الإثنية في المنطقة، كونه يأتي كردِّ فعل على فترات سادتها مشاعر الخضوع والذميّة. خصوصاً مع إصرار "المنتصرين" على تغطية نزاعات دمويّة بروايات "التعايش والتسامح واستقبال السكان المحليين للفاتحين بالورود". لكن هذا لا يبرر طبعاً تقديم رواية مضادّة مُكوّنة بمجملها من انفعالات ومغلفة بمعلومة، لتكون النتيجة حملةً دعائيةً لا تبنِي توجهات فكرية بقدرِ ما تُوّفر سِلعاً إعلامية للاستهلاك المؤقت. 

طِبقاً لذلك، فإنّ استمرار مشروع "المشرق السرياني" في الفترة المقبلة سيدفع للسؤال أولاً عن أهداف القائمين من التأثير في الرأي العام إذا ما ظل النشاط ثقافياً وحسبْ. وثانياً، عن إمكانية تحويل هذه الموجة إلى مشروع سياسي ينطلق من الإثنية والفيدرالية نحو ما هو أوسع، ودَور قوى تعمل على الأرض في ذلك، وفي مقدمتها حزب الاتحاد السرياني، والحزب الآشوري الديمقراطي، والمنظمة الآثورية الديمقراطية. وهي جهات لها نشاطها وتمثيلها المتوزع بين مؤسسات "الائتلاف السوري" المعارض، و"مجلس سورية الديموقراطية"، والذي يعرف اختصاراً بـ"مسد".   

تلك معطيات واقعيّة تفيد في توقّع النتائج السياسية للدعوة القومية السريانية، في حال النظر أيضاً إلى سلوكيات القوى المتنافسة، وعلى رأسها النظام السوري الذي لطالما استفاد من عدم وجود هوية وطنية سورية صلبة ومكتملة لجميع أبناء البلد، فكانت عناصر الوجدان الجمعي المختلفة مادّةً لاستخداماتٍ وظيفية من قِبله، بما يثبّته في السلطة أو يُرضي تحالفاته الداخلية والخارجية. 

لذا لم يكن مستغرباً مثلاً أن يستغل بشار الأسد مناسبات معيّنة للهجوم على العلمانية، والتهليل لـ"الدِّين الإسلامي العروبي"، مع أنّ حَمَلة عقيدة "الهلال الخصيب" من مقاتلي "الحزب السوري القومي الاجتماعي" كانوا عوناً لقواته في أقسى مراحل الحرب السورية.

إذاً، يَسهُلُ الاستنتاج بأنّ أيّ صيغة من صِيَغ القومية السوريّة أو حتى أي موجة أخرى مماثلة لن تُنتج في المستقبل المنظور ما هو أكثر من جمعيات أهليّة أو ميليشيات مقاتلة، بما أن الخارطة السياسيّة لم تشهد تغييراتٍ بعد، وطالما أنّ مضامين تلك الصِيَغ تفتقد لِعَقد اجتماعي شامل يُقنع المُناوئين قبل المحازبين، وينطلق من واقع السوريين ومصالحهم المشتركة، بدلاً من التركيز على استثارة المشاعر، والاستثمار في مناخ هوياتي عالمي يبني التواصل البشري على أساس نبش التاريخ والتطهير والاعتذار والمجاملات. 

أما جمهور المحتوى الافتراضي والدعائي "السرياني/ السوري" فينبغي ألا يحلُم بما هو أكثر من تعلّم مفردات لغوية آراميّة، أو سماع أغنية أوغاريتية، أو إحياء عيد آشوري، وما إلى ذلك من نشاطات اجتماعية تُشعِرهم بأنهم "شعب" لا يحتاج مِظلة عروبية او إسلامية.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها