الإثنين 2023/09/18

آخر تحديث: 17:16 (بيروت)

"العقل" زِينة احتجاجات السويداء

الإثنين 2023/09/18
"العقل" زِينة احتجاجات السويداء
(عن صفحة السويداء 24)
increase حجم الخط decrease
"هناك زعماء دينيون والعديد من النساء. ما يَحدُث في سوريا يؤثر على الشعب بأكمله. وإنّ ثقة النساء في إظهار وجوههن مثيرة للإعجاب". 

لا يحتاج الأمر جهداً لاكتشاف حقيقة أن الكلام صادر عن شخصية أوروبية أو أميركية. ولو سُئِلتْ صاحبةُ التصريح؛ اختصاصية العلوم السياسية الألمانية بينتي شيلر، عما تعنيه بمداخلتها الصحافية تلك حول مظاهرات السويداء، فليس بالضرورة أن تكون إجاباتها وافية، بل قد تستدعي سيلاً من الاستيضاحات.

فهل كان كلامها بتأثير من مزاج استشراقي يُحاول تقصي خصوصيات مجتمع محلي سوري؟ أم أنها رأت في المشهد لوحة فنية بحاجة لوجود عناصر إضافية؟ هل يقف إعجابها بالوجوه المكشوفة عند هذا الحد، أم سيكون هناك تواصل مع صاحباته للسؤال عن حاجة بقيّة النساء لـ"التمكين" أو "المساعدة" وفق صيغة ما؟

بين العام 2011 واليوم، تغيرت أشياء كثيرة لعلّ من أهمها التخلّص من أسْر خيارين وحيدَين عند التعامل مع "أصدقاء الشعب السوري" هما: التسليم الكسول والتشكيك المطلق. ولكي يتوصل السوريون إلى القناعة بأن من يتغزّل بنضالاتهم من وراء البحار هو "طرف" وليس "قاضياً"، فقد كان عليهم أن يستعيدوا ما يشبه فينيقيّة دفينة لديهم على متن قوارب مطاطية ليتأكدوا بأنّ لكل طرف حساباته الشخصية والسياسية والمالية.

تَحضُر حسابات من هذا الشكل، كعامل أساسي في تخيّل نهايات مٌفترضة، بحيث لا يعود مفاجئاً لاحقاً اختزال قضية شعب في تحرك أميركي يربط "العدالة" بحيثيات معينة على غرار "مشروع قانون مهسا أميني" لفرض عقوبات بسبب انتهاكات حقوق الإنسان في إيران، أو بمساعٍ لصناعة أيقونة اسمها مثلاً "ابنة صخور البازلت السوداء السوريّة" على نمط "كنداكة الثورة السودانية"، أو بإنشاء مؤسسة لمتابعة قضية المعتقلين.

تفيد مقاربة تطورات الأوضاع في سوريا عبر هذه التصورات، بعيداً ممن التفاؤل والتشاؤم، في وضع لائحة بالألغام المتوقعة أمام حراك السويداء، وفهم طبيعة المرحلة التي يعيشها، وأهمية إعادة التطلعات السياسية إلى أرض الواقع.

في هذا السياق، تبرز أمثلة كثيرة من الحراك تدل على حجم الوعي بحساسية الموقف قد يكون أوضحها ما نُقِلَ عن الرئيس الروحي لطائفة الموحدين الدروز، حكمت الهجري، لدى الاستفسار حول اتصال سيناتور أميركي به. فبعد عاصفة من التحليلات والتأويلات أعقبت الاتصال، كان لافتاً تأكيد مصدر مقرّب من الهجري على "المطالب المحقة للشعب السوري"، والأهم الإشارة إلى أن "سماحته يستقبل اتصالات شبه يوميّة إقليمية ودولية للاستفسار عن الأوضاع في المنطقة الجنوبية وسوريا بشكل عام"، بحسب منصة "السويداء 24 " الإخبارية.

يُصيبُ رَدٌّ مِن هذا النوع مُروِّجي أخبار "الاهتمام الأميركي" بالإحباط، ويَقطع الطريق على المسكونين بهاجس "ضيعجي"، إذا صح التعبير، لا يميّز بين وزير وسيناتور وفنان، ويلهث لاكتساب قيمة اجتماعية من صورة أو حديث عابر مع أي مسؤول غربي من الدرجة الثالثة أو الخامسة أو العاشرة، أو لصناعة فقاعة إعلامية من تداول أخباره. 

أما الصدمة الثانية فيمكن أن يعيشها المهووسون باستنساخ تجارب "استبدال الأوطان" التي لا يشبع قادتها ونشطاؤها من تكديس الضحايا. وهؤلاء لن يريحهم بالطبع قول الهجري صراحةً: "الجيش العربي السوري لإلنا.. الدولة لإلنا.. العَلَم لإلنا"، بما يعنيه ذلك من منازعة النظام على عناصر الهوية السورية، رغم الاعتراف باعتلالها، لتكون أساساً للبناء بالتشارك مع باقي أطياف الشعب. وذلك خلافاً لمَن يستسيغون الهدم والتجريف المجنون لكل ما هو دولتي وعسكري وثقافي (باسم اجتثاث "البعث" من جذوره)، ثم التبرؤ من جريمة المساهمة بالاحتراب الأهلي، وانتظار بلد بديل مكتمل المعالم الجغرافية والتاريخية والإدارية يقدمه لنا أحد "الأصدقاء"!

في جانب آخر، يستحيل تجاهل تحفظ عدد غير قليل من السوريين تجاه حراك السويداء لكونه "تحت مظلة رجال دين". وهو انتقاد ينبغي تفكيكه، بدلاً من القفز فوقه، من خلال معاينة الدور الذي يلعبه الشيخ، وإن كان يُقدّم نفسه كسياسي أو قائد عسكري مثلاً، أم أنه على مسافة منضبطة من الشارع على قاعدة "الدين لله والوطن للجميع".

تنوّعت الآراء منذ بداية موجة المظاهرات في السويداء إزاءَ مساهمة شيوخ العقل الدروز، فالبعض أثنى على ما صدرَ من مواقف من منطلق "الشيخ فلان أحسن من فلان"، والبعض أعلن تخوفه من تكرار تجربة "اختلاف الألوان الطائفية، والحصول على النتيجة ذاتها"، في إشارة إلى الطابع السني الذي اتخذته الثورة السورية بمباركة ودعم خارجي (مع تطعيمات أقلوية وحزبية شكلانية).

تنطوي الثناءات والتخوفات على وجاهة ما، ويستبطن جزء منها نرجسيات جماعاتية تخصّ الأسبقية والصدارة على مبدأ: "هل سأكون من جماعة تابعة أم قائدة؟". 

في جميع الأحوال، يبدو المكسب الأكبر لمظاهرات السويداء حتى اللحظة، دعوتها إلى مشروع تغيير سوري يستند إلى ما هو موجود من مقومات للوصول في ما بعد إلى مرحلة البحث والنقاش. أي أن الاحتجاج، باستثناء العناوين العامة للمواطنة، لا يفترض صيغاً نهائية للتشارك أو التقاسم.

لقد بدأ أبناء جبل العرب سَيرَهُم في طريق وَعرة لمُحاولة تغيير ذهنية الثورة من "كان نصرنا سيكتمل لو أن الفنان فلان قال كلمة دعم بحقنا"، إلى عقلية "سنَجُود بالموجود، ولن يكون الواقع ذريعة لحلول محلية همجية، ولا لتقاعس ينتظر عطايا خارجية لإنجاز التغيير".

لكنّ صمود العقلانية يرتبط بلا شكّ بعوامل أبرزها تحجيم العنف، لو حدث، إن لم يكن تحاشيه نهائياً، مع إدراك الحاجة للوقت، وضرورة إتقان لعبة "العضّ على الأصابع" مع النظام.

المرأة والرجل والإبن ورجل الدين وسواهم من مكونات المجتمع كلهم يعيشون أدوارهم في حراك يتزيّن بأنماط من الفن، من دون أن تكون وظيفته تقديم نفسه كلوحة فنية، أو كنموذج يطابق معايير معينة سوى معيار التعلم من دروس الماضي، والتأكيد على قراءة النشرات المرفقة قبل تناول علاجات الراغبين بمساعدة السوريين لـ "محاربة الاستبداد".

وبالنسبة للمستقبل القريب أو البعيد، يبقى مُنتظَراً انتقال الشارع إلى شكل ما من التنظيم السياسي، أو إمكانية تحريك مناطق سوريّة أخرى عند مواكبة تطورات وقرارات جديدة تهمّ الجميع. وحتى لو طال الزمن وعجز الاحتجاج عن فكفكة تعقيدات سوريا حالياً، فيكفي بالحد الأدنى أن المحتجين يعطون الأمل لأجيال قادمة ببلدٍ قابل لاستعادة الحياة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها