الخميس 2021/12/02

آخر تحديث: 15:02 (بيروت)

سأخبر أحفادي أنني عشت في زمن الوباء

الخميس 2021/12/02
سأخبر أحفادي أنني عشت في زمن الوباء
من رسوم الأطفال للتعبير عن العزلة خلال الحجر المنزلي
increase حجم الخط decrease
سأخبر أحفادي أنني عشت في زمن الوباء. سأكتب لهم، من الآن، مستذكرةً ما كنت أشعر به كلّما ذُكر الوباء أمامي حين كنت صغيرةً، سواء في كتب التاريخ، أم في القصص، أم في حكايا معلّمةٍ ما. أن تحيا في زمن الوباء، أمرٌ رومانسيّ للغاية، قد تلوّنه مخيّلة الأطفال، مثلي حينها، بألوان باهتة، فيها أصفر يلمع من وقتٍ إلى آخر، كنور مصباحٍ زيتيّ قديم. هكذا صورة الوباء، مع جرذان قد تظهر في الصورة أحياناً، وأحصنةٍ تجرّ عربات، وأطفال بضفائر لا يضحكون.

كان الناس، أيام الطاعون، يختبئون في منازلهم تجنّباً للعدوى. لكن الوباء كان يجد طريقه إليهم. كان ثمة قمرٌ أيضاً حينها، وليلٌ، وأحبّة يقتنصون القُبَل حيث لا عيون تراهم. قد يكونون هم سبب تمكّن العدوى من التسلّل إلى البيوت التي كان يُعتقد أنها مقفلة. منفيّة. منيعة. قد تكون تلك القُبَل هي التي جلبت الموت لعائلاتٍ بأسرها، لكنّها جلبت أوّلاً الكثير من الحبّ، وصنعت قصصاً تتعدّى الموت بالوباء. حدث هذا أيّام الإنفلونزا الأسبانية، ربّما.

امتلأت المقابر أيّامها. كان الناس يستلقون على فراش الموت لفترةٍ معيّنةٍ قبل أن يغادروا، ثم يستلقون في الطرق ويتكدّسون. كانت أزمنة تشوبها الحروب أيضاً. وفي الحروب تزداد الجرذان في الطرق. إعذروني يا أطفالي إن بدا المشهد قاسياً. لا أعلم كم طفلاً ستكونون، أو حتى إن كنتم ستكونون أساساً، لكن لا مانع من أن يقرأ هذه القصّة أطفالٌ آخرون. إنّما أردت أن أؤكّد لكم أن في المخيّلة، مشهداً رومنسياً، ملوّناً بخفّة من يتقن لعبة الضوء والألوان إلى أبعد الحدود، وفيه بعض الجرذان اللطيفة التي تصفّر أثناء مرورها في اللّوحة.


("معركة غير متكافئة"، 2020، للإسبانية فرانشيسكا ليتا سايز)

هكذا كان الوباء في نظري. لوحةٌ لا يربطني بها شيء سوى رومانسيّتها العالية، وبعض البرد الذي يتسلّل منها إلى جسم من يتفرّج عليها ويقضي أمامها بعض الوقت. كلّما قضيت وقتاً أكثر، كلّما ازداد شعورك بالبرد، ثمّ فجأةً تركّز في الضوء الأصفر فيمتدّ بعض الدفء إليك، رويداً رويداً، فتتذكّر العشّاق والليل والقمر، وتهدأ. لا علاقة لك بهذا المشهد. في أيّ حال، ثمّة ناجون من الأوبئة، يتكدّسون الآن في أسفل اللوحة، جهة اليمين. يفرّون منها، بالمئات بل بالآلاف، بل بالملايين، ويتشتّتون في الهواء من بعدها.

سأخبر أحفادي أنني عشت زمن الوباء. استغرقتُ وقتاً طويلاً جداً لاستيعاب أنني فجأةً أصبحت جزءاً من لوحةٍ أخرى ستتمّ المباشرة برسمها، بألوان لا أعرفها بعد. حدث هذا العام 2020، وكنت حينها في لبنان، حين أعلنت منظّمة الصحة العالميّة أن العالم في القرن الحادي والعشرين يواجه وباءً جديداً، اسمه كورونا. جائحة، قالوا، وساد الهرج والمرج في الكوكب كلّه. استغرق العالم وقتاً طويلاً ليهدأ، إذ غرق كثيرون في نقاشاتٍ حول اللّقاحات، وانتشرت الأخبار الكاذبة، ومن جديد، تسلل الوباء إلى البيوت.


(فن الشارع في مدينة بنغالور الهندية - بادال نانجونداسوامي)

كنّا جميعنا أمام الشاشات، مختبئين من الخارج، لكننا نتفرّج عليه. قّلة فقط استطاعت الامتناع عن التفرّج، والباقون أدمنوا تعذيب أنفسهم أساساً. ساعاتٌ من الأخبار والفيديوهات في الإنترنت، تنقل لحظةً بلحظةٍ، نقلاً مباشراً من ووهان الصينية. fast forward. أصبح الوباء في كلّ مكان. لا برد هذه المرة، فالبيوت مجهّزة بالتدفئة. ولا مصابيح زيتيّة، بل أضواء مستشفيات تبالغ في بياضها. ثمّة من سرق الليل هنا، واستبدل القمر بأعمدة كهربائيّة وأضواء كشّافة وماكينات أوكسيجين. أين ذهبت الجرذان؟ يحتاج العالم في هذه اللحظة إلى بعض الرمادي رجاءً، أو إلى بعض الموسيقى.

"أين هو الحبّ؟"، صوتٌ في الخلفيّة يسأل. هكذا هي لوحات زمننا، تغمسك في تعدّد أبعادها. أضواؤها مشعّة للغاية، كشاشاتِ الإعلانات في الطرق. صارخة. تشعر ألا مجال للرومانسية هنا، فلا تعرف بماذا تجيب عن هذا السؤال. الناس في البيوت مكبوتون، والشجارات في أوجّها، والعنف أيضاً قد استفحل، وتصنيع الأسلحة مستمرّ كأن شيئاً لم يكن. ثمة بالتأكيد من سيكتب رواية عن الحب في زمن كورونا، فالحبّ موضوعٌ وجوديّ لا ينتهي سوى بانتهاء الحياة على الأرض، والمقلّدون كثر. لكننا نحن هنا نحاول رسم لوحاتٍ فريدة، محسوسةٍ، بحجم الوباء، لذا حبّذا لو تمكنّا من التركيز قليلاً.


(لوحة لطبيبة أطفال في ولاية انديانا الأميركية - د.سايرة مالك رحمن)

امتلأت المقابر هذه المرة أيضاً. هي كانت ممتلئةً أساساً. كلّ حيّ سيموت، والخلود أسطورةٌ لأصحاب القلوب الضعيفة. أن ترغب في الخلود، أي أن تتوق لحياةٍ لم تعشها لأنك كنت خائفاً. عِش، فالمقابر في أيّ حال فاضت بالأموات الذين فشلوا في تحقيق الخلود، وفايسبوك تحوّل إلى صفحة وفيّات، كما أمست التعازي إلكترونيّة. أصبح بإمكانك أن ترتدي ثياباً صفراء وأنت تقدّم واجب العزاء إلكترونيّاً، ما يمنحنا، أخيراً، بعض الحرية في استخدام الألوان وسط كلّ هذا البياض. ستتضمّن اللوحة بالتأكيد الكثير من الأجهزة الإلكترونيّة، وطعاماً سريعاً كثيراً، وأطفالاً أصابهم الملل.

ستضيفون من جهتكم بعض الرومانسية إلى لوحتي هذه، لا محالة، حين تقرأون في ما بعد عن زمن كورونا. وقد تتخيّلون، مثلي، ملايين الناجين يتدافعون من زاوية اللوحة بكمّاماتهم التي تخفي وجوههم كبراقع بيضاء. لن تكون لكم علاقة مباشرة بهذا المشهد، لذا قد تتمكّنون من إضفاء لمسة حبّ هنا أو هناك، في عالمٍ تغيّر إلى الأبد، الحب ربما بين هاربَين وسط الجموع الغفيرة. سأخبر أحفادي أنني عشت في زمن الوباء، وكنت جزءاً من تلك اللوحة التي ما زالت تهمس لي بأن ثمة شيئاً ناقصاً: فأين هو الحبّ من كلّ هذا؟ 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها