الإثنين 2020/09/28

آخر تحديث: 19:06 (بيروت)

اللاجىء اللبناني المُدلّل.. نهاية الأسطورة

الإثنين 2020/09/28
اللاجىء اللبناني المُدلّل.. نهاية الأسطورة
افتُتحَ عهدٌ جديد طَوى مَشاهِد هجرة السوريين عام 2015
increase حجم الخط decrease
حتى وقتٍ قريب، كانت الصورة السائدة عن المُهاجر اللبناني في أوساط طالبي اللجوء الجُدد أنه "مُدلّل"، وأنه حينَ يُقرّر الانتقال إلى بلاد الاغتراب يَسلُك طُرُقه الخاصة، بما يُجنّبهُ خَوض تجارب قاسية. 

استطاع هذا الانطباع أن يُعمّرَ طويلاً بفضل واقع طريق الهجرة غير الشرعية الأساسي المُمتدّ منَ الشرق الأوسط إلى البلقان، والذي يكاد يخلو من اللبنانيين العابرين أو المُقيمين في مخيمات مؤقتة. 

واكتملَ التصوّر من خلال مجموعات وصفحات فايسبوك ووسائل التواصل، حيث يَكثُر النقاش والسؤال وتبادل الخبرات وأرقام هواتف السماسرة والمهربين بينَ سوريين وعراقيين وفلسطينيين وجزائريين، في حين يَندُر أن تجِدَ لبنانياً بين هؤلاء الحالمين بالوصول إلى أوروبا.

ومن أمثلة "الدلَال" تلك، عدم وجود لبنانيين ضمن لائحة الزبائن المحتمَلين لمهرّبي البشر المعروفين، أصحاب المسارات الجبلية والمائية المعتادة لعبور الحدود وتجنُّب الشرطة. فضلاً عن احتفاظ "الأرزة الذهبية" بالحد الأدنى من هيبتها على الباسبورات، دون حاجة حامِليها إلى تداول وثائق سفر مسروقة أو مزورة في جلسات مقاهي اسطنبول وإزمير وأثينا. 

ورغم اشتداد الأزمات، وتغيُّر حسابات اللبنانيين، وقناعة قسم لا بأس به منهم بضرورة البحث عن وطن بديل، فقد بقيَ التميّز في عالم الهجرة يُنسَب لهُم، عبر روايات تتحدث عن "قدرتهم على استخراج تأشيرات دخول إلى بعض الدول، ثم الانتقال - بمساعدة أقربائهم المنتشرين في كل مكان - لطلب اللجوء في دولة أوروبية قريبة بعد المرور في أوكرانيا وفرنسا وإسبانيا".   
ولعلّ من المفارقات أن اللقاء بطالب لجوء لبناني مثلاً في مخيم لاجئين أوروبي لم يكنْ كافياً لإنزال أبناء هذا البلد من أسطورة "البحّارة الريّاسة المزاجيين"، وكأنّ الجميع كانوا بانتظار حَدَثٍ إعلامي وبَصَري مزلزل! 

وفعلاً، حصَلَ التحوّل مع انتشار أخبار ضحايا " قارب الموت" الذي انطلق من ساحل "المنية"، وتاهَ في البحر مُخلّفاً حكايات مأساوية تُجمّد الدماء في العروق. 

وجاءت قصة الطفلين "محمد وسفيان" وموتهما من الجوع والعطش، ورميهما في البحر بعد تصاعد رائحة جثتيهما لِتُبدّد الاستثناءات الواقعية والمُتخلية في أوساط اللاجئين. وتَتابعتْ الصدمة بانتشار صورة "عفاف عبد الحميد" (والدة الشاب المفقود محمد خلدون محمد) التي يُمكن سماع أنينها المحترق، وملامسة دموعها المُترددة، بمجرد النظر إليها لثوانٍ، لتجعَلَ المُشاهد يخاطبها من وراء الشاشة: "أنتِ أمي أيتها الثكلى".


وبذلك افتُتحَ عهدٌ جديد طَوى مَشاهِد هجرة السوريين العام 2015 (بغض النظر عن إمكانات الإصلاح في لبنان) وكَتَبَ نهاية سرديّة تنميطيّة لطالما حَبَسَتْ اللبناني في بُرجٍ لم يقصد وَضعَ نفسه فيه، لينضمَّ اليوم إلى منكوبي بلدان الشرق الأوسط المتنافسة على تصنيفها كـ"مناطق نزاع" من جهة، وعلى التمسّك بفوقيّات ودونيّات انتمائية، من جهة ثانية. 

وفيما تبدو هذه السرديات والانطباعات مُجرّد خربشة على هامش خصائص أبناء المنطقة، يظلُّ العنوان الأساس الجامع لهم هو أنهم ضحية امتزاج الوطن بـ"الزعيم"، والفضيلة بـ"فضيلة الشيخ"، ولقمة الخبز بـ"كرَم ابن العز"، وأنهم دفعوا كلبنانيين وسوريين وعراقيين ثمنَ تغنّيهم بكونهم شعباً عاطفيّاً (حتى تجاه سياسييّه) يتعامل بمفردات الحُب والعتَبْ واللوم ومناشدة الضمير مع "الأب القائد" و"راعي النخوة" و"بيّ الكلّ"، فباتَ أبناؤه مشاريع قتلى بالرصاص والنترات والبراميل والأمراض. 

وعندما استفاقوا وقرّروا استبدال العاطفة بـ"المواطَنة" وجَدوا دولتهم تحتفي بفقرهم، لتتسوّل باسمهم دولار القروض والمساعدات، مُرحّبةً بمغامرتهم في درب اللجوء، عسى أن يصبحوا مغتربين يوفرون عليها خبزهم، ويَدعمونها بعملتهم الأجنبية، عن بُعد.

"اللبناني يأكل من راس طبخة الهجرة"، أسطورةٌ فرعيّة ذابت ولم تعُد موجودة، وبدلاً منها نمَتْ وتمددت الحكاية الأصل: "اللبناني عموماً يذهبُ أبعد ما يكون في خياراتٍ يراها مصيرية، فيصبحُ فلسطينياً أكثر من الفلسطينيين، وقومياً سوريّاً أكثر من السوريين، وسوفياتياً أكثر من الروس، ويمينياً أكثر من موسوليني، ومناصراً للعدالة والمساواة أكثر من مانديلا، وباحثاً عن الذهب أكثر من كولومبوس. 

إنه ببساطة صنيع ذاته، ونظراتِ جيرانه ممّنْ رأوا فيه صندوق عجائب؛ عارفاً بكل شيء وإنْ لم يحمِل أيّ شهادة علميّة؛ مُمتلئاً ولو كان فارغاً، وشديد الوسامة وإنْ كان عاديّاً".

كلُّ ذلك قبل الاغتراب. أما بعده فلا يبقى من ذلك الصخَب الانطباعي سوى تفاصيل، مثل حكاية "أكلة كشك فريدة من نوعها" تأملُ من رفيقك البعلبكي في مخيم اللجوء بألمانيا أن يدعوك لتناولها في بيته يوماً ما، فتُلمِّحُ له كاسراً جليد التحفّظ، لتباغتهُ بعدها باستفسار يُبرِّدُ حمّى فضولك حول حقيقة الدلال الذي حَظيَ به في سفره إلى أوروبا، ومَصدَرِ آثار الطين والنّمل الطيّار العالق في شَعرِه.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها