الأربعاء 2018/08/01

آخر تحديث: 17:18 (بيروت)

شيطان "كيكي" يزعج عشّاق الصمت

الأربعاء 2018/08/01
شيطان "كيكي" يزعج عشّاق الصمت
increase حجم الخط decrease
يبدو أن البشر يعشقون ما يجمعهم ويثبت اهتماماتهم المشتركة، ولو كان مزحة أو أغنية أو رقصة أو موضة في الملبس أو المأكل أو السلوك، أو لعبة من ألعاب التحدي اسمها "كيكي". وما تقوله الأرقام بشأن رقصة "كيكي" وانتشارها في مصر والدول العربية والعالم كله مذهل، وله وجه واحد فقط، هو وجه الحقيقة المجردة، بمعنى أن تفاعلًا جنونيّاً قد حدث بالفعل، بشكل من الأشكال، مع هذه الطلقة المدوية الوافدة من عالم "الراب"، التي استطاعت أن تشق الصمت، وتهدد الواقع من منصات العالم الافتراضي.


تداعيات هذه الحقيقة، وتأويلاتها، وآليات الهجوم عليها لنفيها أو تسفيهها أو محوها من الوجود، هي المتعددة، بتعدد مداخل النظر إلى الأمور، والحكم عليها، وبتعدد المصالح والأهداف المُحَرِّكة، خصوصاً أن "كيكي" تعني، ضمن ما تعنيه، التحدّي، والتقاء البشر، ومخالفة القانون، والتمرد على النظام، وإزعاج المستمتعين بالصمت والاستقرار.

البداية كانت مجرد أغنية أعقبتها رقصة متوافقة، ثم ظهر التحدي الشهير بالرقص على الطريق إلى جانب سيارة متحركة ببطء، ثم كانت القفزة الهائلة، بعد انتقال "كيكي" المباغت إلى مصر والمجتمعات العربية عبر السوشيال ميديا، أو ما وصفه البعض بـ"ثقافة الكيكي" أو "غزوة الشيطان الهمجي".

والحال أن نجم الراب العالمي درايك (32 عاماً)، وهو يكتب أغنيته "إن ماي فيلينغ" التي تقول كلماتها "كيكي هل تحبينني؟ هل تركبين معي السيارة؟ قولي إنك لن تمري بجانبي وتتركيني"، لم يدر في خلده بطبيعة الحال أن هذه الأمور كلها سوف تحدث، فقد اجتاح تحدي الرقص العالم، وشارك فيه الكثير من المشاهير، ثم كان الطوفان الأكبر بإعلان المصريين والعرب التحدي، وظهور هاشتاغ "كيكي" الكاسح منذ أيام قليلة.

وحققت تريندات "كيكي/ kiki"، حول الحدث الأصلي العالمي وتنويعاته العربية، أرقاماً قياسية في السوشيال ميديا منذ ظهور فنانات مصريات يؤدين الرقصة للمرة الأولى، وأعقبهن بعض الرياضيين والمشاهير، قبل أن يبدأ أشخاص عاديون التجربة، وتكتسي مواقع التواصل بصبغة "الكيكي".


بموجب هذا التحوّل، قفزت مشاهدات "كيكي" لدرايك في"يوتيوب" إلى أكثر من 91 مليون مشاهدة، وأطلق المصريون والعرب عشرات الآلاف من فيديوهات الكيكي، وتجاوزت كيكي الفنانة "دينا الشربيني" على أنغام "شوّقنا" لعمرو دياب 220 ألف مشاهدة، وتخطت كيكي الفنانة ياسمين رئيس بمصاحبة أغنية محمد فؤاد 115 ألف مشاهدة، كما زادت مشاهدات كيكي عصام الحضري على ثمانية وثلاثين ألفاً.

وبعيدًا عن حقل المشاهير، لقي تحدي كيكي صدى كبيراً لدى العامة، سواء عن طريق التفاعل عبر السوشيال ميديا الذي خلق التريند القياسي المستمر لأيام متواصلة في "فايسبوك" و"تويتر"، أو عن طريق المشاركة بالتجربة أيضاً، وحظيت بعض الممارسات الطريفة بمشاهدات واسعة في "يوتيوب""، ومنها كيكي الصعيدي الراقص إلى جوار "عربة كارو" يجرها حمار.



ويجب القول أن الأمر في مصر، والعالم العربي، تعدى نطاق الغناء والرقص بالتأكيد، وإلا فلماذا هذا الاندفاع المبالغ فيه بالتفاعل في الفضاء الافتراضي ونماذج المحاكاة على الأرض؟ ولماذا، على الجانب الآخر، ردود الأفعال الصاخبة من أفراد وجماعات، بل ومن مؤسسات الدولة ذاتها، الأمنية، والدينية؟ فهل يستحق "هز الوسط" هذه الضجة كلها؟

الأمر يبدو مدهشاً بالفعل، خصوصاً أن الفتاوى الدينية المتلاحقة لم تتصاعد من قبل على هذا النحو إزاء فعل الرقص ذاته، غير المجرّم قانوناً، بل الذي تحميه قوانين وتصاريح رقابية تسمح بممارسته احترافياً في الملاهي والحانات المرخصة والمسارح ودور العرض السينمائي، وتعرضه الفضائيات ليل نهار. هل رقصة "كيكي" هي المحرّمة والمجرّمة دون سواها من الرقصات، أم أنه "تجديد الخطاب الكيكي" وفق تعليق أحد المتفاعلين الساخرين في "فايسبوك"، من أجل إثبات متابعة الأزهر ودار الإفتاء لأحدث مستجدات العصر؟

وبالإضافة إلى سند تحريم الرقص، ترتكز الفتاوى الدينية المناهضة لتحدي "كيكي" على بيانات المؤسسة الأمنية، التي صدرت أيضاً بسيولة غير عادية لمحاصرة ما وصفته بـ"الظاهرة الكارثية"، وتدور في مجملها حول أن هذه الرقصة على الطريق تمثل مجازفة مرورية تهدد سلامة المواطنين.

هكذا، اتفقت المؤسستان الدينية والأمنية، ومعهما تيارات مجتمعية محافظة، على ضرورة وأد "كيكي" في مهدها، فهي غير جائزة لأن الرقص حرام، والطريق العام له آدابه، كما أن "كيكي" من مُسقطات المروءة، ومن مظاهر التقليد وفقدان الهوية، ومن باب إلقاء النفس في التهلكة، ومخالفة لقواعد المرور، ومن ثم فإن مرتكبيها يستحقون العقاب الإلهي، فضلًا عن الحبس لمدة عام وغرامة مالية وفق القانون.


هذا ما تقوله السطور، أما الذي بين ثناياها فيفصح عن عناوين أخرى بالتأكيد، فلم تكن الطرق غير الآمنة التي تحصد أرواح آلاف المصريين بمعدلات قياسية سنويّاً مصدر إزعاج للجان الفتاوى وإدارة المرور مثل تحدي "كيكي"، الذي من المؤكد أن ممارسيه لا يؤدونه في طرق رئيسية أو مزدحمة. أما مسألة إلقاء النفس في التهلكة، فعلى من يصدقها أن يسمي عبور الطريق في مصر انتحاراً، حيث يندر أن توجد مناطق مخصصة لعبور المشاة.

الأمر، ببساطة، أن في "كيكي" خطورة من المواطنين، وليس عليهم، ولهذا جاءت الفتاوى والتحذيرات ضدها عنيفة، متشنجة، عدائية، بهذه الصورة الغرائبية. وقد جاءت بعض التصريحات والمداخلات "العفوية" غير المرتّب لها عبر الفضائيات لتبرز هذه الوساوس المؤسسية إزاء "كيكي"، كفكرة تعني في أحد أوجهها: تجمّع البشر، ورفض السائد، وإطلاق الذات نحو التحرر والجرأة والمغامرة.

إن الغلظة في نبرة الفتاوى والتحذيرات أعقبها في بعض الأحيان فضح للأسباب الحقيقية لهذه الحملة الضارية، فكيكي التي هي "من عمل الشيطان، وحصاد الأمر بالفحشاء والهمجية الإفريقية"، وفق تصريح سعيد نعمان، أحد علماء الأزهر، هي في الوقت ذاته بعدما تمادى الرجل في الفضفضة التليفزيونية "حركة أجنبية مقصود بها وقف الحال في مصر، والعودة إلى ما حدث في التحرير".


ويتبنى الرجل صراحة مصادرة سيارة من يرقص تلك الرقصة، قائلًا: "أفيقوا أيها العرب"، ويعتبر أن من سمات العار في صعيد مصر أن يرقص السائقون إلى جوار العربات الكارو. وبدوره، دعا أحمد المالكي، عضو لجنة الفتوى بالأزهر، الدولة إلى إصدار قانون يحمي قيمها وحضارتها، ويمنع تعطيل الشوارع على وجه الخصوص.

هكذا، فإن الإخلال بالنظام، والاندفاع البشري، وفتح الباب للتجمهر في الشوارع، هي أسباب وصف تحدي "كيكي" بأنه سلوك مشين، إلى جانب الحيثيات الأخرى المكرورة التي تنطبق على أمور وأفعال أخرى لا يكترث أحد بتحرميها وتجريمها لكونها لا تنطوي على إمكانية العودة لما حدث في التحرير.

لقد أزعج تحدي "كيكي" عشّاق الصمت والاستكانة، واستعاد حلول الشيطان، فأي شيطان تقصده المؤسسة الرسمية؛ إبليس الإغواء، أم شيطان أمل دنقل، الذي "قال لا في وجه من قالوا نعم"؟

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها